مبارك وشهادة التاريخ

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 1 مارس 2020 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

كيف سيحكم التاريخ على حسنى مبارك؟ هل سيتأثر المؤرخون فى المستقبل بما جاء فى الصحافة المصرية عقب وفاته من أن المواطنين قد شعروا بالحزن لرحيله؟ وأن البعض منهم ذهب إلى حيث كان سيودع الثرى للهتاف له توديعا لمن اعتبروه «حبيب الملايين»؟.
التاريخ لا يعتد كثيرا بردود الفعل الوقتية هذه، وإلا لكانت فكرتنا أكثر إيجابية عن شخصيات تركت مسرح الحياة والسلطة بطريقة أو بأخرى، وبكاهم المواطنون، ولكن حكم التاريخ بعد مغادرتهم الدنيا بعقود، بل وأحيانا بسنوات قليلة، كان أقل رأفة بهم، أذكر أنى قرأت أن الشاعر السوفيتى يفجينى أوفتشنكو وصف رد فعل المواطنين السوفييت عندما سمعوا نبأ وفاة جوزيف ستالين. رآهم الشاعر الشاب وقتها ينتحبون علنا. ثم عرف العالم بعدها بثلاث سنوات حجم الانتهاكات الواسعة للحق فى الحياة وفى الحرية التى طالت مئات الآلاف إن لم يكن ملايين المواطنين السوفييت، وكان كشف هذه الفظائع على يد نيكيتا خروشوف وهو من خلف ستالين فى قيادة الحزب الشيوعى السوفيتى. وجه المقارنة الوحيد هنا هو أن مشاعر المواطنين لحظة رحيل من كان يحكمهم ليست هى شهادة التاريخ على هذا الحاكم.
هل ننتظر إذا سنوات طوالا قبل أن نعرف حكم التاريخ على حسنى مبارك كرئيس لمصر طوال ثلاث عقود؟ أم أنه يمكن لنا لو تحلينا بقدر من الموضوعية أن نستشرف هذا الحكم، حتى ولو كانت لنا أحكامنا المسبقة عليه. ربما ننجح فى ذلك لو نحينا جانبا هذه الأحكام. وتأملنا كل سجل الرئيس الأسبق بكل جوانبه. وهذا ما يزعم هذا المقال محاولته حتى ولو كان ضيق المجال لا يسمح بالتعرض لكل التفاصيل المهمة فى هذا السياق.
ثلاثة عقود من حكم مبارك
ربما لا أبالغ بالحكم على عقد الثمانينيات فى القرن الماضى على أنه أفضل سنوات مبارك رئيسا لمصر. بدأ عهده بإزالة آثار الإجراءات القمعية التى اتخذها الرئيس السادات فى شهر سبتمبر ١٩٨١، وهى كما اتضح فيما بعد كانت سببا رئيسيا فى التخطيط لاغتياله. أطلق سراح أكثر من ألف وخمسمائة من قيادات العمل السياسى وناشطيه من جميع الاتجاهات، وأعاد الصحفيين وأساتذة الجامعات الذين كان الرئيس السادات قد نقلهم إلى وظائف إدارية، وتم تعديل قانون انتخابات مجلس الشعب بإدخال مبدأ التمثيل النسبى، وهو ما كانت تطالب به أحزاب المعارضة، وإن ظل الحد الأدنى لنجاح قوائم الأحزاب مرتفعا نسبيا لا يقل عن ثمانية فى المائة من إجمالى أصوات الناخبين، وأطلق حرية العمل نسبيا للأحزاب السياسية، وجرت فى ذلك العقد انتخابات مجلس الشعب، دخل فى أعقابها نواب أحزاب المعارضة بأعداد أكبر مما كان على عهد الرئيس السادات، ولم يعترض على تحالف الإخوان المسلمين مع حزب الوفد فى سنة ١٩٨٤، ولا مع حزبى العمل والأحرار الاشتراكيين فى سنة ١٩٨٧، وتراوح عدد نواب المعارضة المنتخبين فى هاتين الدورتين ما بين ٥٦ و٩٣ ومع أكثر من عشرين من المستقلين والأحزاب الأخرى، وقبل الرئيس مبارك حل كل من المجلسين فى أعقاب حكم القضاء بمخالفة نتائج انتخاباتهما لصحيح القانون.
أما من الناحية الاقتصادية فقد كان عقد الثمانينيات عقدا ضائعا فى تاريخ مصر، وخصوصا فى نصفه الثانى الذى تباطأ فيه كثيرا معدل النمو. لم تستطع الحكومة بلورة سياسة اقتصادية واضحة متأثرة بالرفض الشعبى لإجراءاتها الاقتصادية فى يناير ١٩٧٧ التى اتخذتها أملا فى أن تفتح أمامها الطريق لإبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولى، ولذلك تراكمت الديون الخارجية على مصر، وبلغت قرابة خمسين مليار دولار فى آخر ذلك العقد، ولكن الرئيس مبارك استمر على رفضه قبول شروط الصندوق، وخصوصا تعويم الجنيه، ورفع الدعم عن الطاقة بما فى ذلك المصانع، كما كان لا يوافق على بيع القطاع العام، بل وكان يصف صندوق النقد بالطبيب الفاشل الذى يداوى المريض بدواء يمكن أن يقضى على أجله.
تغيرت هذه الأوضاع فى عقد التسعينيات، فهو العقد الأقل من حيث وجود أحزاب المعارضة فى مجلس الشعب، وربما كان السبب فى ذلك هو رفض الإشراف القضائى الكامل على جميع مراحل الانتخاب، وهو ما طالبت به معظم الأحزاب، ليكون هذا الإشراف حائلا دون الإصرار على التلاعب بالعملية الانتخابية، وهو ما كان شائعا من قبل، فلم يزد تواجدها عن عدد يقل عن العشر فى المجلس المنتخب فى ١٩٩٠، وعن ضعف هذا العدد فى المجلس المنتخب فى ٢٠٠٠، ومن ناحية أخرى كان عقد التسعينيات هو عقد المواجهات العنيفة مع فصائل الإسلام السياسى التى تميل إلى استخدام السلاح ضد الحكومة والمواطنين والسياح الأجانب مما أسهم فى تعميق الأزمة الاقتصادية فانخفضت معدلات النمو إلى ما لا يتجاوز ٤,٢٪ فى المتوسط طوال هذا العقد، وأدت مشاركة القوات المسلحة المصرية فى التحالف الدولى الذى قادته الولايات المتحدة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقى إلى إسقاط الولايات المتحدة لديون مصر العسكرية، ومنح دول الخليج مصر سبعة بلايين من الدولارات معونة اقتصادية لمصر، كما أسقط نادى باريس للدائنين الدوليين نصف الدين الخارجى لمصر، وفى ظل هذه الظروف المواتية أبرمت الحكومة المصرية اتفاقا مع كل من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى أدى أولا إلى تباطؤ النمو الاقتصادى الذى انتعش إلى حد ما عند منتصف التسعينيات، وبدأت فى إجراءات بيع القطاع العام.
أما العقد الأخير لمبارك فقد شهد نصفه الأول مزيدا من تقييد الحريات بدعوى مكافحة الإرهاب، واستمرار التباطؤ فى النمو الاقتصادى، ولكن نصفه الثانى شهد إصلاحات سياسية تمثلت فى تعديل الدستور ليسمح بتعددية المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية، وبالسماح للإخوان المسلمين بخوض انتخابات مجلس الشعب تحت راية الإخوان ودونما حاجة للدخول فى ائتلاف انتخابى مع أحزاب أخرى، وهكذا خاض مبارك انتخابات مدته الرابعة فى سنة ٢٠٠٥ أمام عشر مرشحين كان أبرزهم أيمن نور والدكتور نعمان جمعة رئيس حزب الوفد الجديد، وجرت المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب فى نفس العام بقدر من التدخل المحدود من جانب أجهزة الإدارة مما سمح للإخوان المسلمين بزيادة تواجدهم بخمسة أمثال ما كان عليه الحال فى المجلس السابق، ولم توفق أحزاب المعارضة المدنية بنفس القدر، ولكن ارتفع عموما وجود المعارضة والمستقلين فى مجلس الشعب إلى ما يقرب من ربع أعضائه، إذ وصل عند إعلان نتيجة الانتخابات إلى أكثر من ١٣٠ نائبا، وهو أكبر عدد لأحزاب المعارضة والمستقلين فى أى برلمان عرفته مصر. كما شهدت نهاية العقد انفتاحا إعلاميا كانت أهم علاماته إصدار صحف مستقلة عن الأحزاب السياسية فى مقدمتها صحيفتا المصرى اليوم والشروق، واللتان فتحتا صفحاتهما لكتاب ذوى توجهات مستقلة وجريئة، ومن علاماته أيضا السماح بقنوات تلفزيونية خاصة سمحت من خلال برامجها الحوارية بقدر واسع من تعدد الآراء، واكتسبت شعبية كبيرة جعلت قيادات الحكومة تلجأ لها عندما تريد التواصل مع المواطنين.
هذا الانفتاح السياسى والإعلامى كان رد مبارك على تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية التى تطالب برفع القيود عن الحياة السياسية، وخصوصا رفض ترشحه لفترة رئاسية جديدة أو نقل السلطة لابنه جمال الذى أخذ يلعب دورا رئيسيا فى الحزب الوطنى الحاكم من خلال توليه منصب أمين لجنة السياسات التى كانت بحق مصنع سياسات الدولة طوال العقد الأول من الألفية الثالثة، كما كان استجابة أيضا لضغوط أمريكية تحديدا فى ظل إدارة جورج بوش الابن، والتى دعت إلى تغيير النظم غير الديمقراطية فى الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى توتر العلاقة مع مبارك الذى امتنع عن زيارة الولايات المتحدة منذ سنة ٢٠٠٥ حتى غادر جورج بوش منصبه وحل محله باراك أوباما الذى زاره مبارك مرتين فى ٢٠٠٩، ٢٠١٠.
وإذا كان الاقتصاد المصرى عاد إلى النمو فى النصف الثانى من العقد الثالث لمبارك، وتجاوز نموه فى ذلك العقد ٥,٢ ٪ فى المتوسط سنويا، واقترب من ٧٪ سنة واحدة، فقد كان نموا لا تسقط ثمراته على الفقراء أو لا يبدو كذلك. الأرقام المتوافرة عن نسبة الفقراء أو توزيع الدخل لا تقطع بأن أوضاعهم كانت أسوأ مما عليه الحال فى الوقت الحاضر، ولكن المؤكد أن الخدمات التى يتطلع لها الفقراء ومحدودو الدخل من تعليم ورعاية صحية ومواصلات عامة وسكن لائق فى متناولهم وفرص عمل مناسبة لم تتحسن رغم ذلك النمو إن لم تكن ساءت. ولذلك فإن الصيغة التى اعتمدها مبارك من جرعة محدودة من الحريات السياسية لا تسمح بانتقال سلمى للسلطة مع نمو رأسمالى يأمل أن يعود بالنفع على الفقراء لم تكن قابلة للاستمرار، وهو ما أدركه بكل تأكيد، ولذلك عدل عن قبول وجود معقول للمعارضة فى مجلسى البرلمان لا تهدد قبضته على السلطة، وهكذا جرت انتخابات مجلس الشعب فى خريف ٢٠١٠ واتسمت بتدخل صارخ من أجهزة الإدارة والشرطة لم ينجح معها من مرشحى المعارضة سوى أربع عشر بالمقارنة بما يقرب من ١٣٠ فى المجلس السابق، ونجح نائب واحد قريب من الإخوان المسلمين كنائب مستقل.
مبارك وثورة يناير
وهكذا كان العام الأخير لمبارك هو عام انغلاق المجال السياسى بالكامل، ونكوصه عما بدأ به عهده فى أوائل ثمانينيات القرن العشرين. تضييق متزايد على الصحافة تمثل فى تحويل أربع من رؤساء تحرير صحف معارضة ومستقلة للمحاكمة وصدور أحكام بسجنهم، وممارسات بوليسية شائنة لا تتوقف على الناشطين السياسيين وحدهم نقلته أدوات الاتصال الاجتماعية لكل المواطنين، وتزاوجا بين السلطة والثروة بتولى رجال أعمال مناصب وزارية وحزبية لا يتورعون من خلالها عن استخدام سلطتهم تحقيقا لمصالحهم، وقدرا هائلا من الفساد على أعلى مستويات الحكم شهدت به تقارير منظمة الشفافية الدولية وأحكام المحاكم فى مصر التى أدانته بعد الثورة باستخدام المال العام، بالاستيلاء وتسهيل الاستيلاء على ١٢٥ مليون جنيه من أموال الدولة لتنفيذ أعمال بناء فى قصور أبنائه، وفى ظل إحساس أغلبية المواطنين بانسداد أفق الحياة الكريمة والعمل اللائق أمامهم، مع إصراره على البقاء فى الحكم أو توريثه لنجله واستمرار نفس السياسات التى أوصلتهم إلى هذا الوضع، ثاروا عليه. وعندما قامت الثورة فى يناير ٢٠١١، فإنه ناور فى البداية بطرح تعديلات دستورية مع بقائه فى السلطة، ثم بإعلان أن ابنه لن يخوض الانتخابات التالية، ولما أخفقت الشرطة فى وقف المظاهرات فقد أمر قوات الجيش بالتدخل، وفى حسبانه أنها ستنجح فيما فشلت فيه الشرطة، ولم يكن هناك احتمال آخر لذلك سوى أن تستخدم سلاحها فى مواجهة المتظاهرين، وهو مالم يحدث لأن قيادة القوات المسلحة لم تكن راضية عن خطة التوريث. وهكذا أمام رفض القوات المسلحة مساندته فى مواجهة ثورة شعبية أصيلة لم يكن أمامه سوى الرضوخ بالتخلى عن السلطة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
لقد كان للسياسة دورها فى تقرير مراسم جنازته العسكرية والعزاء الذى أعقبها. ولكن هل يؤيد سجله حاكما لمصر لثلاث عقود المعاملة المتميزة التى حظى بها عند وفاته من جانب الدولة والقوات المسلحة؟ هذا ما سيجيب عنه التاريخ.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved