أسلمة المشروع النووى الإيراني

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 1 مارس 2021 - 7:00 م بتوقيت القاهرة

بوازع من ثيوقراطية أصبغتها على سياسة بلادها، الداخلية منها والخارجية، منذ ثورة الشعب المدنية عام 1979، تأبى السلطة الدينية الحاكمة فى إيران إلا إضفاء مسحة إسلامية على مشروعها النووى المثير للجدل، طمعا فى انتشاله من ربقة الضغوط الدولية وإحاطته بمباركة عربية وإسلامية، على نحو ما تمظهر فى ملمحين بارزين ومتناقضين فى آن: تجسد أولهما فى استثمار فتوى المرشد الأعلى بحرمانية السلاح النووى لدرء الاتهامات الموجهة لها بالسعى لامتلاكه. بينما تبدى ثانيهما فى الترويج لفرية تسخير الخبرات النووية الإيرانية لنصرة الإسلام ونهضة المسلمين.
أما عن الملمح الأول، فقد لاحت إرهاصاته فى أكتوبر 2003، حينما أصدر خامنئى فتوى شفهية نهى فيها عن إنتاج، أو استخدام، أو تخزين، جميع أسلحة الدمار الشامل، وتم تضمينها ببيان إيرانى رسمى أمام اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا عام 2005، ثم فى رسالة موجهة إلى المؤتمر الدولى لنزع السلاح بجنيف فى أبريل 2010، ومن بعد ذلك القمة السادسة عشرة لحركة عدم الانحياز بطهران فى أغسطس 2012. بدورهم، انبرى كبار المسئولين الإيرانيين فى تسويق تلك الفتوى، والاستشهاد بها فى إنكارهم لأية مآرب عسكرية لبرنامج بلادهم النووى، الذى اعتبرها الرئيس روحانى مرجعية عقائدية لتطوره. وبعيد أيام من إبرام الاتفاق النووى عام 2015، أكد خامنئى أن بلاده، وبرغم امتلاكها القدرة على إنتاج القنبلة النووية، بغير عائق أو رادع، لن تقدم على هكذا خطوة، كونها تتعارض مع الشريعة الإسلامية، حسب زعمه.
وبينما لم تتم صياغة تلك الفتوى توطئة لنشرها بشكل رسمى مستقل، إذ جرى استنباطها من رسائل المرشد إلى بعض الفعاليات الدولية ذات الصلة، فيما يظنه إيرانيون كثر حجة كافية، مستندين إلى رأى فقهى شيعى، لا يحتم تحرير الفتوى، باعتبارها وجهة نظر للمرجع الدينى، لا ضير أن تأتى شفهية أو مكتوبة، طالما أكدها مكتب ذلك المرجع، تغافل حسين موسويان، نائب الرئيس روحانى، عن حقيقة افتقاد الفتاوى الدينية لأية حجية قانونية أو سياسية، كما للقدرة على تبديد الشكوك الدولية فى نوايا إيران النووية، داعيا إلى تبنى مقترح وزير الخارجية، حينئذ، أكبر صالحى بتسجيل الفتوى النووية الخامنئية لدى الأمم المتحدة كوثيقة ملزمة لإيران، محذرا من الاستهانة بها أو التقليل من شأنها، نظرا لخصوصية الصلة بين الدين والسياسة فى إيران، حيث تتمتع فتاوى المرشد، الذى يمنحه الدستور صلاحيات هائلة، بأهمية شرعية وحجية قانونية، تستعصيان على التشكيك أو المراوغة.
فى حين لا يعترف عديد فقهاء شيعة، كأستاذه ومعلمه آية الله منتظرى، بأهلية المرشد الحالى خامنئى للولاية أو الفتوى، كونه لم يبلغ درجة الاجتهاد، تنطوى الفتاوى الشيعية على قابلية للتحلل منها. وفى مقال نشره عام 2013 حول نجاعة فتوى خامنئى النووية فى إقناع المجتمع الدولى بسلمية برنامج بلاده النووى المؤجج للمخاوف، أكد الكاتب الإيرانى عباس خسروى، أن الفتوى فى المذهب الإمامى الإثنا عشرى، نسبية ومحدودة ومختلفة ومتناقضة. ذلك أن فتاوى المرجع لا تلزم سوى مقلديه حتى مماته فحسب. ما يعنى أن فتوى خامنئى النووية ليست ملزمة لجموع الإيرانيين، كما يحق لمقلديه التنصل منها وتقليد مرجع آخر بعد وفاته، فيما يجوز للمرجع الجديد إلغاء فتاوى سلفه، وإباحة حيازة الأسلحة النووية. واستشهد خسروى فى طرحه بفتوى للخمينى بتحريم لعبة الشطرنج، تبعتها أخرى مناقضة أحلتها لاحقا.
فى الوقت الذى استند الإيرانيون على أقوال منسوبة للخمينى بخصوص تحريم إنتاج واستخدام السلاح الكيمياوى إبان الحرب العراقية الإيرانية (1980ــ1988)، انهالت الاتهامات من جانب بغداد وواشنطن لطهران باستخدامه خلال تلك الحرب، كما أفادت تقارير استخباراتية أمريكية عام 2018 بإخفائها برنامجها للأسلحة الكيمياوية عن رقابة منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، علاوة على معاونة نظام القذافى فى تصنيعها خلال ثمانينيات القرن الماضى. لذلك، لم يكن مستغربا أن يعترف وزير الخارجية الأسبق صالحى، فى حوار للتلفزيون الإيرانى عام 2019، بانتهاك بلاده اتفاق (5+1)، عبر مواصلتها جميع الأنشطة النووية التى حظرها عليها، امتثالا لتوجيهات المرشد، الذى يوقن باستحالة الوثوق بالأمريكيين والأوروبيين، بما يستوجب التأهب لمختلف السيناريوهات.
وفيما يتصل بالملمح الثانى، المتعلق بأكذوبة «القنبلة النووية الإسلامية»، التى طفقت تتداولها دوائر غربية فور إنتاج الهند سلاحها النووى عام 1974، ضمن سياق التحذير من مساعى باكستان لامتلاك ذات السلاح توسلا لبلوغ توازن الردع النووى مع خصمها اللدود، حسبما أورد الأمريكيان، ستيف وايزمان وهربرت كروزونى، وقتئذ، فى كتابهما المعنون «القنبلة الإسلامية»، فلم تكن إيران بمنأى عنها. فبينما حذرت صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية من شبح «القنبلة النووية الإسلامية»، التى تسعى إيران لامتلاكها بدعم تكنولوجى من كوريا الشمالية وباكستان، ألح خبراء استراتيجيون روس فى مطالبة بلادهم بالتوقف عن مساندة البرنامج النووى الإيرانى، تجنبا لظهور «قوة إسلامية نووية» على تخوم روسيا الجنوبية، وبامتداد خطوط التماس مع إقليمى القوقاز وآسيا الوسطى، اللتين تعتبران الأكثر سخونة وتهديدا للأمن القومى الروسى، إذ تختمر بأحشائهما مشاريع مبطنة ومخيفة لحركات إسلامية، طالما اشتهرت بمناهضتها لموسكو.
انطلاقا من تسييسه المغرض للدين وتوظيفه لتقويض المعارضة السياسية الإيرانية وتجريدها من أى شرعية أو تأييد شعبى، عبر رميها بالكفر والنفاق وإذكاء الفتنة والخروج على ولى الأمر، عمد نظام طهران إلى أسلمة مشروع بلاده النووى، أملا فى تقليص حدة الحصار الدولى عليه وتهدئة المخاوف الإقليمية بشأنه، من خلال استجداء دعم العرب والمسلمين له، أو تحييدهم إزاءه على أقل تقدير. ففى فبراير 2010، وعشية توجيه الرئيس الأسبق نجاد لرئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية بالبدء فى تخصيب اليورانيوم محليا بنسبة 20%، أعلن وزير الدفاع، فى حينها، أحمد وحيدى، أن كل ما بحوزة إيران من قدرات دفاعية، وما تسعى جاهدة لتطويره أو ابتكاره من إمكانات تكنولوجية نووية، سيكون تحت تصرف حلفائها وسيصب فى مصلحة الأمة الإسلامية جمعاء.
بمناورته تلك، استلهم النظام الإيرانى استراتيجية غابرة لنظيره الباكستانى فى ذات المضمار. فلطالما دأب الأخير، منذ تدشين مشروع بلاده النووى وحتى إنتاج قنبلتها الذرية، على الترويج لسردية تهافت باكستان للحصول على التكنولوجيا النووية ابتغاء نهضتها والتماسا لعزة العالم الإسلامى بأسره، حتى أصدر عبدالقدير خان، أبوالقنبلة النووية الباكستانية، عام 1981، كتابا بعنوان «القنبلة النووية الإسلامية». وبعدما احتفت فى سبتمبر 1986، بقدرتها على تخصيب اليورانيوم بنسبة 93.5%، سعى الرئيس ضياء الحق لحشد التأييد الإسلامى لتلك القفزة النوعية فى مواجهة الحصار الدولى والتربص الهندى والإسرائيلى، مبديا استعداد بلاده لإشراك الدول الإسلامية فى الاستفادة من ذلك الإنجاز. غير أن هذه السردية سرعان ما غدت سرابا بمجرد انتهاء باكستان من صنع قنبلتها النووية عام 1998. حيث انبرى وزيرها للشئون الخارجية، وقتئذ، صديق خان، فى تفنيد وسم البعض لها بـ«الإسلامية»، مؤكدا أنها قنبلة «باكستانية» صرفة. وبعدما أبدى استياءه من نسب الأسلحة إلى الأديان، تساءل، متهكما، عن مدى واقعية تصنيف القنابل النووية حول العالم، إلى «مسيحية» غربية، وروسية، أو «يهودية» إسرائيلية، أو «كونفشيوسية» صينية، أو هندوسية «هندية، أو «إسلامية» باكستانية.
لم تكد تمر ثلاثة عقود، حتى مضى نظام طهران على درب سلفه الباكستانى فيما يتصل بأسلمة مشروعه النووى، مدعيا أن تفانيه فى امتلاك التكنولوجيا النووية، إنما يأتى فى عداد خدمة الإسلام والمسلمين، دون أن يطوى بين ثناياه أى نوايا إيرانية عدوانية خفية، من قبيل تصدير الثورة، أو الهيمنة على المنطقة. لكن ما إن يتسنى له انتزاع بطاقة العضوية المستعصية فى النادى النووى، حتى يحذو حذو نظيره الباكستانى عام 1998، فلا يتورع عن المجاهرة بأن قنبلته النووية، التى كبدته الغالى والنفيس حتى تحصل عليها بشق الأنفس، إنما هى إيرانية محضة، أو «فارسية» بالأحرى.
يومئذ، ستجد منطقة الشرق الأوسط نفسها وقد انزلقت إلى مواجهة عصيبة مع تداعيات سلبية خطيرة تتهدد أمنها واستقرارها. فبغض النظر عن انعكاس ذلك الخطب الاستراتيجى الجلل على العلاقات الشائكة والمريبة بين طهران وتل أبيب، من شأن تأثيره البالغ على توازن القوى الإقليمى، أن يهوى ببلدان عربية وإسلامية شتى، فى أتون سباق تسلح نووى محموم، توخيا منها لتجسير الفجوة النووية مع إسرائيل وإيران، استباقا للمخططات الدولية الرامية إلى بلورة نظام أمن إقليمى جديد، وفقا لعلاقات القوى المستحدثة بين دول المنطقة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved