حيرة علماء السياسة فى فهم ما يجرى على أرض المحروسة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 1 أبريل 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

قضيت من عمرى قرابة نصف قرن مشغولًا بعلم السياسة، منها سبع عشرة سنة دارسًا، وأكثر من ثلاثة عقود باحثًا ومدرسًا ودارسًا أيضًا، ومع ذلك لا أستطيع أن أجيب على بعض الأسئلة التى يطرحها علي مواطنون وأصدقاء ممن لم يدرسوا ما درست، ولا أظن أن زملائى من المصريين والأجانب يملكون جوابًا على هذه الأسئلة، ولذلك تساءلت بينى وبين نفسى ما إذا كان للعلم الذى أنفقت معظم حياتي مهمومًا به له أى قيمة إذا كنت لا أستطيع أن أجيب على السؤال: إلى أين تذهب مصر؟ وأكتفي بالقول أنها لن تذهب إلى أى مكان، ستبقى على حالها الراهن مالم يتغير ما فى نفوس قادتها ومواطنيها.

 

ومع ذلك فقد عاودت النظر فيما تعلمته، ربما فيه بعض القيمة، ولذلك سأشركك عزيزى القارئ في هذه المغامرة الفكرية، وأترك لك الحكم على جدواها ونتيجتها.

 

●●●

 

أولًا يفترض علم السياسة أن الفاعلين السياسيين من قادة وأحزاب ودول يتسمون فى تصرفاتهم بالعقلانية، ومعنى ذلك أنهم يعرفون مصالحهم، ويبلورون هذه المصالح فى أهداف قابلة للتحقق ويستخدمون مالديهم من وسائل لبلوغ هذه الأهداف، ويسعون لتعظيم هذه الوسائل، وعندما تبدو صعوبات فى الوصول إلى الأهداف التى تتوافق مع مصالحهم، فإنهم يتكيفون مع الواقع الجديد، ويعدلون من أهدافهم ووسائلهم، يميزون بين أهداف المدى البعيد وأهداف المدى القصير، ويطوعون الوسائل لخدمة الأهداف. فهل تنطبق هذه الرؤية على قوانا السياسية؟ تعال نتعرف على مدى العقلانية فى سلوك هذه القوى.

 

نبدأ بالفصيل السياسى الأول فى مصر، وهو بلا شك الإخوان المسلمون الذين يملكون التنظيم الواسع الممتد فى معظم أرجاء مصر، بل له امتدادات خارجها، وهو يملك أيضًا موارد واسعة ، وقدرات تعبئة واسعة. مصلحته الأولى هى أن يحافظ على مكانته هذه، أن يبقى أكبر تنظيم، وأكبر حزب سياسى، وأكثر الأحزاب قدرة على كسب الأصوات. ولكن هل يترجم الإخوان المسلمون مصلحتهم هذه فى صورة أهداف قابلة للتحقق. هنا نواجه مشكلة كبرى فنحن لا نعرف على وجه التأكيد تلك الأهداف الكبرى التى يسعى الإخوان المسلمون لبلوغها. وإذا ما صدقنا أنهم يسعون لأسلمة المجتمع، وهذا ما تقوله أدبياتهم، فنحن لا نعرف ماذا يقصدون بأسلمة المجتمع، سوى أنهم يميلون إلى الفصل بين الطلبة والطالبات فى مدرجات الجامعة، ويحبذون ما يعتبرونه زيًا إسلاميًا للمرأة، ويحبون أن يطلقوا لحاهم على نحو يتراوح بين الخفيف والمتوسط، ويقولون إن ذلك سنة عن رسول الله، أما فى شئون الاقتصاد والسياسة فليس لهم برنامج متميز، هم يحبذون اقتصاد السوق، ويتفاوضون مع صندوق النقد الدولى، وهو ماكان يفعله النظام السابق ولم يكن يسمى نفسه إسلاميًا، وفى شئون السياسة، فإن دستورهم أبقى على مؤسسات النظام السابق، ولكن غير مسمياتها، مجلس الشورى مازال هو مجلس الشورى، وأصبح مجلس الشعب هو مجلس النواب، وأضاف كلمة الشورى فى وصف النظام السياسى فى مصر. وعندما يحاول الإخوان المسلمون  إدخال مسحة إسلامية على الدستور والإقتصاد، فالإخوان المسلمون هم أول من يتخلى عن هذه المسحة. هذا ما جرى بالنسبة للمادة الرابعة فى الدستور التى تقتضى استشارة هيئة كبار علماء الأزهر في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية، وعندما اعترض الأزهر على مشروع الصكوك المسماة بالإسلامية، والذى ينص على تشكيل هيئة من علماء الدين للنظر فى إصدارها، رفض مجلس الشورى الذى ينتمى أغلب أعضائه للإخوان المسلمين والسلفيين، عرض هذا المشروع على علماء الأزهر الذين طالبوا بدراسته، ويمكن أن يلقى هذا المشروع حكمًا قضائيًا بعدم الدستورية إذا ما أصرت حكومة الإخوان المسلمين على تمريره دون أن تتم إحالته للأزهر. وهكذا يتعامل الإخوان المسلمون مع « المسحة « الإسلامية التى يريدون إضفاءها على الدستور.

 

●●●

 

هدف أسلمة المجتمع ليس واضحًا، ولا يمكن الهرب من غموض هذا الهدف برفع شعار الخلافة الإسلامية. لم أصدق ما قرأت عندما جاء على لسان الدكتور محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين أنهم يسعون لتحقيق دولة الخلافة التى ناضل من أجلها المرحوم حسن البنا المرشد العام الأول للجماعة ومؤسسها، ولكن الإشارة إلى الخلافة الإسلامية تكررت على لسان قادة آخرين فى الجماعة. هل هذا هدف قابل للتحقيق؟ هل يمكن أن تلتقى كل الشعوب المسلمة تحت حكم واحد أيا كانت صورته؟ حلم الأمة العربية توارى ليس فقط لكثرة الخلافات بين الدول العربية، ولكن لأن هناك خطرا أكبر وهو ألا تتمكن الدول العربية من الحفاظ على وحدتها الإقليمية من التفكك. انقسم السودان إلى دولتين، وتفكك العراق، وقد تعرف سوريا نفس المصير، وتجاهد ليبيا أمام نزعات انفصالية فى شرقها، هل تخضع كل بلاد المسلمين من إندونيسيا وماليزيا وبنجلادش وباكستان ونيجيريا وكل الدول العربية لحكم خليفة واحد؟ ياله من هدف رائع، ولكنه مستحيل التحقيق، وهل سيمارس الخليفة المنتظر وظائف دينية ومدنية معًا، يؤم الناس فى الصلاة ويحرص على إتباعهم لصوم رمضان ودفع الزكاة وإقامة الصلاة؟ هل هذه هى الدولة المدنية التى يقول أو قال الإخوان المسلون أإنهم يسعون إلى إقامتها؟ شرط الفاعل العقلانى أن تكون أهدافه قابلة للتحقق، وهذا لا ينطبق على الإخوان المسلمين، وحتى عندما استعاضوا عمليًا عن هدف الأسلمة بمسعى «الأخونة» أى السيطرة على مفاصل الدولة المصرية، فهذا بدوره هدف صعب المنال. هم لا يعرفون بالتأكيد طبيعة البيروقراطية المصرية التى أعيت كل النظم، ولها أساليبها الفريدة فى نسف أى محاولة لتطويعها مالم تتجاوب مع أهداف الحكم، ومالم يضمن لأفرادها العيش الكريم ومشروعًا وطنيًا له مصداقية. ولهذا تجاوبت عمومًا مع جمال عبدالناصر وأرهقت السادات ومبارك.

 

وإذا كان الإخوان المسلمون يهدرون ما لديهم من وسائل العمل السياسى وراء أهداف مستحيلة التحقيق وعدم قدرة على التعلم من دروس الواقع، وافتقاد المهارة فى استخدام هذه الوسائل، ويرسبون هكذا فى اختبار الفاعل العقلانى، فإن القوى السياسية الأخرى تسقط بدورها فى هذا الإختبار. القوى السياسية المدنية مصلحتها هى كسب الشعب المصرى، أو فلنقل أغلبيته وراء مشروع الدولة المدنية، وهو هدف ممكن التحقيق ولكن وسائلها فى كسب الشعب محدودة للغاية قاصرة حتى الآن على المؤتمرات الإعلامية ودعوة المواطنين للاحتشاد فى الميادين وراء مطالبها هذه، أو للاحتجاج على ما تتخذه الحكومة من إجراءات تتنافى مع روح مشروعها. ومع أن جماهير الشعب لم تعد تستجيب كثيرا لهذه النداءات، لم تغير هذه القوى السياسية من أسلوبها هذا، ولم تسع حتى الآن إلى تعظيم وسائلها لبلوغ هذا الهدف. هى شأنها فى ذلك شأن القوى الثورية التى تشارك أحزاب جبهة الإنقاذ نفس الهدف، ولكنها تأمل تحقيقه من خلال الثورة. ولكنها بدورها ليست لديها وسائل كسب المواطنين لمشروع الثورة. هذه القوى المدنية كلها مازالت أسيرة وهم تكرار يوم 25 يناير 2011 رغم اختلاف الظروف.

 

●●●

 

ولكن ألا توجد فى مصر قوة سياسية واحدة تنطبق عليها شروط الفاعل العقلانى؟ نعم، سيندهش القارئ عندما يعلم أن القوات المسلحة هى القوة الوحيدة التى تنطبق عليها هذه الشروط. مصلحتها تحددت فى البقاء خارج لعبة السياسة، وهى بكل تأكيد تملك وسائل ذلك فهى وسائل متواضعة بالبعد عن خلافات السياسيين، وقد تعلمت الدرس، وتكيفت مع الأوضاع الجديدة، وقاومت حتى الآن محاولة إقحامها من جديد فى خضم بحر السياسة متلاطم الأمواج.

 

وهكذا سأجيب على من يسألنى أين تمضى مصر بالقول إن مصيرها معلق بين فاعل سياسى يملك الوسائل ولكن يفتقد الهدف الواقعى والقدرة على التعلم، وفاعل له هدف قابل للتحقق ولكنه منصرف عن البحث عن الوسائل التى تمكنه من بلوغ الهدف، وفاعل ثالث حدد هدفًا واقعيًا لا يحيد عنه رافضًا أن يحل محل الفاعلين الآخرين. فهكذا تمضى لعبة السياسة فى مصر. كثير من الضجيج ولا حركة إلا للخلف.

 

 

 

استشارى العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ومدير شركاء التنمية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved