مشكلة البطالة.. قديما وحديثا

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الثلاثاء 1 أبريل 2014 - 6:00 ص بتوقيت القاهرة

الاقتصادى الانجليزى الشهير جون مينارد كينز، الذى توفى فى منتصف القرن الماضى، لم يكن فقط واحدا من أهم الاقتصاديين على الإطلاق، بل كان أيضا رجلا حكيما جدا، كما كان رجلا مخلصا لأمته، وعاشقا لثقافتها.

كان لايزال يعيش فى عصر «القوميات»، قبل أن يزحف عصر «الشركات متعددة الجنسيات»، ولكنه ببعد نظره رأى الشبح قادما، ولم يعجبه منظره، فكتب يحذر من أخطار العولمة بقوله: «إنى أتعاطف مع هؤلاء الذين يدعون إلى تخفيض الاعتماد الاقتصادى المتبادل بين الأمم إلى حدّه الأدنى، أكثر مما أتعاطف مع الداعين إلى زيادته إلى حده الأقصى. نعم هناك أشياء يجب أن تظل عالمية بطبيعتها، كالأفكار والمعرفة والفنون والمعاملة الكريمة للغرباء والسياحة. ولكن دع السلع يجرى غزلها فى داخل الوطن كلما كان هذا ممكنا، من دون إرهاق وأعباء تزيد على الحد. وفوق كل شىء «فلتكن حركة الأموال فى الأساس محدودة بحدود الوطن».

من المعروف أن اسم كينز يقترن دائما بكتابه الشهير «النظرة العامة فى العمالة والفائدة والنقود» الصادر فى 1936، وبالسياسة الاقتصادية المعروفة باسمه التى كانت تستهدف أساسا مواجهة مشكلة البطالة التى استفحلت فى ثلاثينيات القرن الماضى، ولم يقض عليها إلا شيئان: قيام الحرب العالمية الثانية، وتطبيق السياسة الكينزية. ولكن مشكلة البطالة عادت من جديد ابتداء من السبعينيات، تعلو وتهبط، وكأن السياسة الكينزية لم تعد تجدى فى حلها، وها هى البطالة تنتظر الآن من جديد فى العالم المتقدم والمتخلف على السواء، خاصة بعد الأزمة العالمية التى بدأت فى سنة 2008 ولا تبدو لها نهاية قريبة.

من الممكن أن نفسر عجز السياسة الكينزية الآن عن أداء نفس المهمة التى أدتها بنجاح فى الثلث الثانى من القرن العشرين، بهذه الظاهرة نفسها التى حذّر منها كينز وهى «العولمة». لقد كتب كينز كتابه الشهير وطبقت سياساته بنجاح فى عصر كانت فيه حدود الدولة القومية هى حدود النشاط الاقتصادى الأساسى، وكانت الدولة القومية قادرة على التحكم فى هذا النشاط. ثم حدث ذلك الانفجار المروع فى السبعينيات، الذى نسميه الآن بـ«العولمة»، حين بدأ نشاط الشركات العملاقة يمتد إلى كل مكان، وقفزت هذه الشركات عبر الحدود السياسية وكأنها مجرد خطوط مرسومة على ورق، وراحت رءوس الأموال تنتقل بحرية بين دولة وأخرى، وزاد إنتاج الشركات حتى فاق إنتاج بعض الدول، وبدت الحكومات ضعيفة ضعفا مهينا ومخجلا أمام سلطان هذه الشركات، وظهر أن السياسة الاقتصادية التى يمكن أن ترسمها أى حكومة، عاجزة عن التحكم فى نشاط هذه الشركات، وكان لابد أن يظهر ذلك فى مشكلة البطالة كما ظهر فى غيرها.

كانت ظاهرة البطالة دائما، منذ نشأة الرأسمالية، سلاحا يستخدمه الرأسمالى ضد العمال، فيجبرهم على قبول الأجر المنخفض وظروف العمل السيئة بتهديدهم بالاستغناء عنهم والاستعاضة بغيرهم من صفوف المتبطلين الباحثين عن عمل بأى أجر. ولكن البطالة الآن، فى ظل العولمة، بدأت تتخذ سمات أخرى مخيفة، تختلف تماما عن سماتها فى ظل الرأسمالية المحصورة داخل الدولة الواحدة.

فى عصر الشركات متعددة الجنسيات أصبح الرأسمالى يهدد العمال بأن يغلق المصنع بأكمله، ليفتحه فى بلاد أخرى، العمال فيها مستعدون لقبول الأجر المنخفض والعمل فى أى ظروف. العامل الانجليزى يخشى المنافسة من المتبطلين فى إندونيسيا، وهؤلاء يخشون منافسة المتبطلين فى تايلاند أو نيجيريا... إلخ. الظاهرة مخيفة لأكثر من سبب فالعمال المتبطلون لم تعد لهم القدرة على تخريب المصنع أو رميه بالطوب، فقد اختفى المصنع تماما من أمامهم. وهم لا يستطيعون تهديد أصحاب المصنع بالعمل النقابى أو الضغط على الحكومة، فالعمل النقابى لا يمتد أثره خارج الحدود، والحكومة نفسها أصبحت تأتمر بأمر الشركات العملاقة، وحتى لو لم تأتمر بأمرها فإنها لا تستطيع أن تتعقبها خارج حدود الدولة.

•••

من السياسات التى انتشر تطبيقها فى ثلاثينيات القرن الماضى لمواجهة مشكلة البطالة سياسة «إفقار الجار»، حيث تفرض الدولة حواجز جمركية عالية تمنع بها، أو تقيد بشدة، الواردات من دول أخرى، رغبة فى تنشيط حركة شراء مواطنيها للسلع التى تنتجها الشركات الوطنية، وبهذا تحاول كل دولة تخفيض البطالة داخلها على حساب زيادة البطالة فى دول أخرى، وهكذا تؤدى السياسة الاقتصادية لدولة ما إلى «إفقار» دول أخرى.

لم يعد هذا أمرا سهلا فى ظل العولمة. فالشركة التى طردت العمال قد هاجرت هى نفسها إلى الخارج، والقيود الجمركية أصبحت محظورة باتفاقيات دولية، ومن ثم أصبح تنشيط الطلب الداخلى لا يعنى بالضرورة تنشيط الطلب على الصناعات الوطنية، بل قد ينعكس فى زيادة الاستيراد بدلا من زيادة الإنفاق على السلع الوطنية.

ولكن الشركات التى ذهبت لممارسة الإنتاج فى دولة أخرى، لا تنقل بالضرورة فرص العمل من دولة لأخرى، فهى وإن كانت تزيد حجم الإنتاج فى الدول المضيفة التى ذهبت إليها، فإنها قد لا تزيد عدد المشتغلين فيها، إذ إن قدومها للإنتاج فى هذه الدولة قد يترتب عليه إغلاق مصانع أخرى وطنية كانت قائمة قبل قدومها، وكانت تستخدم فى الإنتاج تكنولوجيا أكثر بساطة وأكثر استخداما للعمل. فإذا بهذه الشركات العملاقة تزيد الإنتاج حقا، بتكنولوجيتها المتقدمة، ولكنها تزيد حالة البطالة سوءا، سواء فى الدول التى تركتها أو الدول التى جاءت إليها.

فى مقال مذهل نشرته مؤخرا جريدة الجارديان الأسبوعية البريطانية (28/2) لاقتصادى هندى (جاياث جوش J. Ghosh) يعمل أستاذا فى جامعة نهرو بنيودلهى، ووصفته الجريدة بأنه «واحد من أبرز الاقتصاديين فى العالم»، شرح حقيقة النمو الاقتصادى السريع فى الهند، الذى لا يكف الكتّاب عن تعييرنا بأننا لا نفعل مثلها، فقال: (على الرغم من ثلاثة عقود من النمو الاقتصادى السريع فى الهند، فإن الحجم الصافى «أى بعد طرح الوظائف المفقودة من الوظائف الجديدة»، لفرص العمل المسجلة رسميا، وهى فرص العمل التى تتيح أى نوع من الحماية للعمال وتستفيد من القوانين المنظمة للعمالة) لم يحقق أى زيادة على الإطلاق من خلال هذه العقود الثلاثة».

ما الذى يمكن عمله فى هذه الحالة إلا تغيير «الوطن» بأكمله، أى البحث عن عمل فى وطن آخر؟ ولكن «تغيير الوطن» يثير جوانب أخرى لظاهرة «الظلم الاجتماعى» و«العدالة الاجتماعية» مما يحتاج إلى مقال آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved