حمزة الذى لا تعرفه
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 1 أبريل 2018 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
«ـ هذه هى النهاية والأمر لله!».
«ـ ليس فى كل ماضينا المجيد موقف كهذا!!».
«ـ بلى، كأيام سعد، ولكنها النهاية!».
هكذا بدت الصورة فى رواية «السمان والخريف» لـ«نجيب محفوظ» لحظة إلغاء زعيم «الوفد» «مصطفى النحاس» باسم الشعب اتفاقية (١٩٣٦) فى أكتوبر (١٩٥١)، التى وقعها بنفسه.
بحس روائى أدرك «محفوظ»، على لسان شيخ معمم عضو فى مجلس الشيوخ، أن إلغاء الاتفاقية نذير نهاية، رغم أنها لحظة مجد.
بتوصيف تاريخى فإنه «أخرج المارد من القمقم، الذى أجهز على ما بقى من النظام القديم، ولم يكن بوسع أحد أن يعيده حتى الوفد نفسه» ــ وفق شيخ المؤرخين الراحل الدكتور «يونان لبيب رزق».
بإلغاء الاتفاقية انفسح المجال واسعا أمام القوى الوطنية الشابة لحمل السلاح فى منطقة قناة السويس، وكان «الضباط الأحرار» فى قلب المشهد التاريخى، ساعدوا بقدر ما استطاعوا على تدريب الفدائيين وشاركوا بأنفسهم بقدر ما هو متاح فى قتال قوات الاحتلال واستهداف معسكراتها.
كانت تلك قضية جيل اكتسب وعيه عام (١٩٤٦) إثر الحرب العالمية الثانية، فى ظل نداءات التحرر الوطنى وحق تقرير المصير والعدل الاجتماعى.
ولدت أفكار جديدة وروح جديدة فى الحركة الوطنية المصرية لخصتها فى ذلك الوقت «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة».
كانت تجربة الفدائيين واحدة من أهم ملامح الجديد الذى يولد.
تجاوزت عملياتهم ضد معسكرات الاحتلال البريطانى فى الإسماعيلية والقصاصين والتل الكبير أية أعمال فردية سابقة شهدتها شوارع القاهرة من مهاجمة جنود بريطانيين والاستيلاء على ما لديهم من أسلحة وذخائر.
بتداعى الحوادث جرت مواجهة مسلحة فى الإسماعيلية يوم (٢٥) يناير (١٩٥٢) بين قوات بريطانية على درجة عالية من التسليح وقوات أمنية مصرية قاومت أوامر الاستسلام وقاتلت ببسالة فى ظروف شبه مستحيلة، فاستشهد (٤١) ضابطا وجنديا وأصيب (٧٢) آخرون.
فى اليوم التالى (٢٦) يناير أحرقت القاهرة، وأنزل الجيش إلى الشوارع لضبط الأمن، وعزلت حكومة «الوفد» وجرى تعقب الفدائيين والقبض عليهم وصودرت أسلحتهم، التى أمكن الوصول إليها.
إثر تلك الاعتقالات توقفت عمليات الفدائيين ضد المعسكرات البريطانية، لكن بعد شهور قليلة كان الرد مدويا بما جرى يوم (23) يوليو.
باستثناء أعمال أدبية شحيحة وشهادات متناثرة لم تكتب قصة هذا الجيل كما تستحق.
أهم تلك الأعمال قصة قصيرة كتبها «يوسف إدريس» ضمن مجموعة «جمهورية فرحات» حملت اسم «قصة حب».
لم تكن قصة حب اعتيادية فى وقت تتقارب فيه احتمالات الموت مع فرص النجاة..
ربما لهذا السبب عدل «صلاح أبو سيف»، ابن نفس الجيل والتوجهات، اسم الشريط السينمائى، الذى أخرجه عام (١٩٦٣) عن قصة «يوسف إدريس»، إلى «لا وقت للحب» مجسدا لحظة فارقة فى التاريخ المصرى بكل تضحياتها ومشاعرها.
لم يكن أحد ــ تقريبا ــ يعرف أن القصة حقيقية وبطلها شاب يدرس الطب فى جامعة الإسكندرية، قبل تخرجه عام (١٩٥٣)، اسمه «حمزة محمد البسيونى» رحل قبل أيام فى صمت ونعته أسرته فى صفحة وفيات بكلمات مقتضبة.
لم يكن أبرز الأسماء التى ارتبطت بحرب الفدائيين، ولا سجلت له أدوارا مهمة فى الحياة العامة على مدى عقود طويلة، لكن قوة الأدب والفن أسبغت على قصته إلهاما يتحدى تجريف الذاكرة.
بصورة مشابهة لم تكن المناضلة الجزائرية «جميلة بو حيرد» أكثر من ضحت فى سبيل استقلال بلادها بالقياس على مناضلات أخريات، لكنها جسدت بقوة الفن التضحيات كلها فى فيلم أخرجه «يوسف شاهين».
قصة «حمزة»، الذى لا تعرفه، هى قصة واحد من أفضل الأجيال المصرية فى التاريخ الحديث ـ حلم وبذل وضحى دون أن ينتظر ثمنا.
كاد أمير القصة العربية القصيرة أن يتماهى مع بطله حين استمع إلى تجربته بأدق تفاصيلها السياسية والإنسانية داخل زنزانة واحدة ضمتهما فى معتقل أبو زعبل عام (١٩٥٤) إثر الصدام بين ثورة «يوليو» وتنظيم «حدتو» اليسارى.
وقد أدخل المعتقلات مرات أخرى فى عهد «أنور السادات».
قرب رحيله أدلى بتصريحات صحافية بدا لافتا فيها ما قاله عن «جمال عبدالناصر»: «رغم اعتقالى لخمس سنوات فى عهده إلا أنى ما زلت أحبه».
كانت تلك مسألة أفكار وسياسات وانحيازات عبر عنها رجل رحل قبل نحو نصف قرن.
فى ظلال القصة تساؤلات عما إذا كان التقى «عبدالناصر» أثناء تدريب الفدائيين، أو وصل إلى علمه ما وراء الضباط الشبان الذين كانوا يشاركونهم عمليات القتال.
كان الصدام مبكرا بين «يوليو» و«حدتو»، التى انتسب إليها واقترب منها «يوسف إدريس» و«صلاح أبو سيف» على خلفية إعدام العاملين «خميس» و«البقرى» يوم (١٣) أغسطس (١٩٥٢) إثر احتجاجات لحقتها اضطرابات فى مصانع «كفر الدوار».
باليقين فإنه حكم جائر وافق على تنفيذه مجلس قيادة الثورة بتوقيع رئيسه اللواء «محمد نجيب»، فيما اعترض ثلاثة بالاسم ــ والتحديد هنا ضرورى: «خالد محيى الدين» و«يوسف صديق» و«جمال عبدالناصر».
الاسمان الأولان ينتميان تاريخيا إلى «حدتو»، التنظيم اليسارى الذى نظم الإضراب، فيما كانت دوافع «عبدالناصر» سياسية وأخلاقية، فقد كان يجفل ــ حسب روايات وشهادات عديدة ــ من إضفاء طابع دموى على الثورة، فالدم يجلب دما.
هكذا ذهب «حمزة» إلى المعتقل فى عصر حلم به وقاتل من أجله ودافع عنه بعد أن انقضت أيامه.
وعاش فى الظل السياسى وتفرغ ــ تقريبا ــ لقضيته كطبيب يعنيه الفقراء وحقوقهم فى تأمين صحى حقيقى.
ترى ماذا كان مصير «شكرى»، الذى وشى فى العمل الدرامى بـ«حمزة» ورفاقه من الفدائيين للبوليس السياسى؟
على الأغلب ــ دون أن تكون هناك معلومات ــ أنه صعد فى سلطة جاءت بها ثورة خانها.
حدث ذلك كثيرا، فـ«الثورات يصنعها الشجعان ويجنيها الجبناء» ــ كما قال ذات مرة «أرنستو تشى جيفارا».