فرحتان مصريتان

محمد المخزنجي
محمد المخزنجي

آخر تحديث: الخميس 1 أبريل 2021 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

كان نهار الإثنين من هذا الأسبوع باعثا على فرح عارم أظن أن أحدا لا يعرفه إلا من كانت له مع قناة السويس ذكريات عشرة حميمة مثلى، فقد أمضيت ستة أشهر أعمل فى هذا المجرى الملاحى العبقرى طبيب حجر صحى يلاحق السفن القادمة للعبور من قافلة الشمال على ظهر لانش يرفع علما أصفر يعرفه كل قباطنة وبحارة العالم. وقادنى فضولى إلى تجاوز حدود عملى إلى عبور كامل القناة من بور سعيد وحتى السويس أكثر من مرة، ثم قُدِمت لى دعوة من رئيس هيئة القناة الأسبق، الفريق أحمد على فاضل، أخترت أن أقيم خلالها فى بيت ديليسبس فاطلعت على كنز تذكارات حفر القناة وكتالوجاتها التاريخية المصورة وفتننى كما الخديو إسماعيل أجمل وجه لأنثى بشرية على مر العصور فى صورة فوتوغرافية للأمبراطورة أوجينى فى حجرة نوم ديليسبس الذى كان قريبا لها من جهة الأم. 

  بزغ فرحى الذى لم أنم ليلة الإثنين لاستقباله عند الفجر مع أول تحريك للسفينة العملاقة «إفر جيفن» التى أغلقت القناة فاهتز لإغلاقها العالم. لقد اكتشفت الدنيا واكتشفنا معها مدى أهمية ذلك المجرى المائى العالمى فى بلدنا. وكشفت محنتنا عن ضباع يتحينون موت قناة السويس لضرب وطننا فى صميمه، فإماتة قناة السويس كانت تعنى تسهيل تعطيش مصر، كمثال واضح، وهى رؤية أجزم بواقعيتها من زاوية علم النفس السياسى، لهذا كان فرحى انفجاريا ما أن أخذت السفينة المنكودة تتحرك ماضية إلى البحيرات المرة لتنهى مرارة ستة أيام ساحقة، وبانتصار كبير، هندسيا وإنسانيا، ومصريا بامتياز. مأثرة حقيقية من رجال هيئة قناة السويس، الذين قدموا لمصر هدية أثمن ما تكون بتوقيتها ودلالاتها.

  عند غروب هذا اليوم الكبير، وفى غمرة الحبور وجدت نفسى أبحث فى مكتبتى عن كتاب «السخرة فى قناة السويس» للدكتور عبدالعزيز الشناوى، وقد قرأته إبان عملى فى القناة وجعلنى وأنا على صفحتها أحس طول الوقت أن تحت مياه هذه الأسطورة الحية ثمة أسلاف حفروها بأجسادهم يتطلعون إلىَّ بوجوههم مصرية الملامح عبر تماوج الماء. وقد ظل كتاب الدكتور الشناوى يأخذنى دائما إلى تأكيد العراقة الثقافية التى تميز بها كثيرون من هذه العائلة المنصورية، الشاعران الكبيران مأمون وكامل الشناوى، والكاتب الناقد الصديق العزيز طارق الشناوى، وشيخ الأزهر السابع والثلاثين محمد مأمون الشناوى، جد الفاضلة الدكتورة فرحة الشناوى التى قادتنى المقادير لقضاء أيام مضيئة فى مكتبته ببيته العتيق العريق المطل على نيل المنصورة وحى الحوار، وفى هذه المكتبة اكتشفت السبيكة الثقافية النفيسة للشيخ الذى خاض معركة إلغاء الدعارة وربحها، شيخ يقرأ الفلسفة والآداب الحديثة وتاريخ العلوم جنبا إلى جنب مع كتب التراث على تنوعها. انفتاح عقلى رحيب ومحافظة متحضرة ورحيمة. كأنها التكوين العقلى والروحى والثقافى الذى ورثته عنه الدكتورة فرحة الشناوى التى ضربنى نبأ رحيلها الموجع مساء فرحة ذلك الإثنين. فكأن الأقدار تصنع مجازها الفلسفى المزدوح فى يوم واحد. فرحة مصرية جديرة تهل، وفرحة مصرية أصيلة ترحل. ترحل ضمن قافلة شهداء الأطباء فى الصف الأمامى لمواجهة أعتى جائحة حديثة تعصف بالبشرية. فأى مغزى هائل هنا؟

  لقد كانت الدكتورة فرحة الشناوى، أيقونة مصرية عقلية وإنسانية تشرفت بمودتها على قلة ما التقيتها فى المناسبات الثقافية النادرة التى كنت أشارك فيها بكليتى الأم، طب المنصورة، فهذه المصرية الخالصة بملامحها الطيبة الذكية ولونها القمحى وقامتها الأمومية، كانت مثقفة رحيبة الأفق رفيعة الذوق، إضافة لكونها عالمة حقيقية، اختارت بإصرار لا صخب فيه أن تكون رائدة فى علم المناعة، وبرغم هدوئها العميق المطمئن، قبلت التحدى البحثى فى باريس تحت إشراف البروفيسور «جان دوسيه، عالم المناعة الفرنسى الحاصل على جائزة نوبل فى الطب عام 1980. وعادت من اغترابها البحثى لتوطن ما اكتسبته فى كليتها، طب المنصورة (التى صارت أول سيدة عميدة لها فيما بعد)، فأسست معملا للمناعة الإكلينكية وأبحاث الخلايا الجذعية، واختارها العظيم النادر الدكتور محمد غنيم لتعمل معه فى مجال تصنيف الأنسجة المُحدِد لنجاح عمليات زرع الكلى. فأى قوة إبداعية كانت تمتلكها هذه الروح الوديعة. وأى معنى مضىء يتركه رحيلها فى ذلك اليوم.. يوم الفرحتين المصريتين؟ 

 المعنى، وبوضوح: إن مصر قادرة، بتواضع وصدق مخلصيها أن تجترح المعجزات، شرط أن تنفض عن نفسها غبار وغباوة صناعة التفاهة والخفة، فى الأفراح والأتراح وما لا يُجدى، حتى لا تخنق جدية مصر وعمقها الفريدين. 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved