علاقة الحب بالزمن

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 1 أبريل 2022 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

لا شك أنك تذكر ــ عزيزى القارئ ــ أننا تحدثنا أكثر من مرة عن الحرب الأوكرانية وتداعياتها، وهكذا جلست لأكتب مقالى لك عنها، حيث إنه كانت هناك أحداث جديدة وكثيرة تُحفزنى لأستكمل سلسلة مقالاتى، وإذ بشهر رمضان يُداهمنى، ذلك الشهر الذى لى معه ذكريات بديعة منذ نعومة أظافرى مع أصدقائى وجيرانى فى صعيد مصر، وتذكرت أن القارئ يَمَل سريعا عندما يُكرر الكاتب الحديث عن موضوٍع واحدٍ أكثر من مرتين أو ثلاثة على الأكثر مهما كانت أهميته. ثم أن حرب أوكرانيا لا تهم الشعب المصرى ككل، فهى من البلدان البعيدة نسبيا، ليس فقط فى المسافة الجغرافية، لكن أيضا فى الحضارة والثقافة والتاريخ. فبعض المواطنين المصريين ربما لم يسمعوا الاسم قط، وبالتأكيد أن الأغلبية المطلقة للمصريين لا تعرف مكانها أو لغتها أو حضارتها وثقافاتها. ثم أن دخول شهر رمضان يَحُثُنا أن نبتعد بعض الشىء عن السياسة والحروب وسفك الدماء، وأن نلجأ إلى ما يُريح أعصابنا ويملأنا بالتفاؤل بالمستقبل، وليس هناك ما يجعلنا نهدأ ونهرب من التوتر أكثر من الحديث عن الحب؛ حب الله وحب الإنسان وحب القريب، بل وحب الآخر فى الإنسانية. 

من المؤسف أن علاقة الحب بين الرجل والمرأة اتسمت أخيرا وكثيرا بالتحرر الجنسى مما أدى إلى تفكك العلاقات العائلية، وقد انتشر الطلاق وتضاعفت أعداد الأفراد الذين يعيشون وحيدين. وألفت نظرك ــ عزيزى القارئ ــ أن هناك ظاهرة انتشرت فى القاهرة والإسكندرية ومناطق أخرى بأن هناك فتيات كثيرات من اللاتى يعملن فى شركات دولية أو دخلهن مرتفع نسبيا تركن بيوت عائلاتهن واستأجرن لأنفسهن أماكن خاصة بهن، يعشن فيها بمفردهن، أو مع صديقات لهن. وهكذا وبجوار هذه الظاهرة انتشرت العلاقات الغرامية عبر الإنترنت، بل وانتشرت تجارة الأجساد وغيرها من مظاهر الانحلال الأخلاقى والفساد، وقد توازى ذلك مع مشاعر الاغتراب عن أسرهن والحيرة والتشتت فى علاقاتهن اليومية بآخرين من الجنسين من نفس الجيل. وهكذا فقدوا العلاقات الأسرية الحميمة، بل فقدوا الإشباع والدفء الأسرى، وكل هذا أدى بالطبع إلى قصر زمن الارتباطات خاصة التى تَغلُب عليها العلاقات (الغرامية) المعاصرة. بل الأسوأ من ذلك جاءت ظاهرة غموض الهويات الجنسية (ذكور وإناث) فلا يستطيع رجل الشارع التمييز بينهما.

وفى محاولة لفهم هذه الظواهر وهذا لا يتم إلا بالاعتماد حصريا على التحليلات النفسية، اكتشف الدارسون لهذه الظاهرة أن هناك نسبة تقل عن النصف منهن نجحن فى حياتهن العملية، لكن عددا غير قليل منهن فشلن فى حياتهن الزوجية وطلقن أنفسهن أو تم تطليقهن من أزواجهن، وهكذا أصبحت هذه العلاقات معقدة لا تُهدد الصحة العقلية للأفراد الذين قاموا بهذه المغامرة فحسب، ولكنها أيضا أثرت سلبا وبقوة على قدرة المجتمعات عموما فى حاجتها لتجديد ذاتها بصفة خاصة، بل والعمل على توفير مستويات كريمة من الرعاية للأجيال الأكبر سنا، وأنه لابد من إيجاد حلول لهذه الإشكاليات التى تزداد يوما بعد الآخر والتى تتركز فى العلاقات العاطفية والجنسية، خاصة وأننا نلاحظ أن هناك مكانا لعاطفة الحب داخل مؤسسة الزواج للطبقة الوسطى، ومنعدمة فى الطبقات الفقيرة. فهناك ارتباط وثيق بين القدرة المادية وتبادل الهدايا والمشاركة فى الأنشطة الترفيهية.

• • •

نحن نرى أن فكرة أيديولوجية «الحرية الشخصية المتطرفة» هى السبب فى ذلك، حيث أنتجت ما يمكن أن نطلق عليه «العلاقات الاجتماعية السلبية» أو مجتمع «اللاحب». فحين تتلاشى العلاقات وتتفكك بل وتذوب لتحل محل أشكال الحب الناضجة والمستقرة، فقل على هذا المجتمع السلام. وإذا كان الحب فى عصر الحداثة قد اتسم بحرية الدخول فى علاقات جنسية وعاطفية وفقا لإرادة المرء واختياره، فإن الحب بشكله التقليدى قارب على الانتهاء فى عصر ما بعد الحداثة؛ حيث أصبح هذا العصر يتميز بتعميم حرية الانسحاب من العلاقات، مما أدى إلى انهيار الروابط الاجتماعية وتلاشيها. 

لقد كان التعبير عن «الرغبة» فى القرن العشرين له معاييره ورموزه التى لم يعارضها أى دين من الأديان بل شجعها فى بعض الأحيان لصالح مجتمع الطبقات المتوسطة، وعلى الرغم من أن هذا التوجه جاء من نسق اجتماعى سلطوى أبوى بطريركى، لكنه مع ذلك وفّر للشباب مسارا فى اتجاه ممارسات المغازلة والغراميات ضمن نطاق الخيارات التى تؤدى غالبا إلى الزواج وتكوين الأسرة، ناهيك بنوع من تعزيز التضامن الاجتماعى عبر المصاهرات بين العائلات. لكن اليوم وبعد أن سادت النزعة الرأسمالية الاستهلاكية وهيمنت على العقول فقد دفعت الناس إلى التفكير فى ذواتهم والجنس الآخر كسلع سوق تُصبح فيه حتما أقل ربحا مع مرور الوقت، بل ويجب استبدالها بأخرى جديدة. والأسوأ من ذلك أصبحت الرغبة الجنسية تُعَرف من خلال ما نسميه «نظام العمل البصرى»، حيث تحالفت شركات الأزياء ومستحضرات التجميل ووسائل الإعلام، ومنتجو الأفلام الإباحية معا فتحولت (الرغبة) إلى أداء مسرحى مسطح لا عمق فيه ولا احترام، فقد أصبح عرض الأجساد المثيرة لا سيما النساء من أجل الربح أمرا شائعا فى مجال الأفلام والإعلان وأماكن العمل. وهكذا تم القضاء على الحب الرومانسى التقليدى لحساب الحرية الجنسية وقبول مبدأ «الحق بالمتعة المتبادلة دون قيود أو شروط»، وذلك لتفصل الحياة الجنسية للأفراد عن مؤسسة الزواج والحميمية نتيجة تبادل مشاعر الحب عبر الأيام. 

وهكذا تم قتل الطقوس الاجتماعية للتقارب والتودد بين الجنسين، والآداب السليمة وتوقعات الشفافية العاطفية، وهكذا تراجعت الأشكال والطرق التقليدية للتعارف، وبدلا من ذلك يبذلون جهدا لتقديم أنفسهن على أفضل صورة للطرف الآخر فى إطار سعى مستمر لتحقيق نوع من تطابق الخلفيات الاجتماعية والطبقية للطرفين لتقليل فرص الطلاق لاحقا، وذلك فى مقابل الصيغ الجديدة التى تم فيها استبدال الإطار الاجتماعى للعلاقة باتصالات فردية كثيرا ما تبدأ عبر وسائل التواصل الاجتماعى معتمدة على أساس الجاذبية الجنسية بشكل أساسى. وبالطبع فى هذا المزاج الجديد يبدو التعارف أقرب إلى تسوق مواد استهلاكية سريعة الذوبان، ويخلق جوا من عدم الالتزام وغياب الاستقرار والخيانة، مما يؤدى إلى ما يسمى «الاستغلال الجنسى للنساء وتشييئهن» وإذلال الأقل حظا جماليا وطبقيا فى سوق العرض والطلب.

• • •

من هنا نستطيع القول أن الحب الحقيقى يحتاج إلى معايير وتوافقات أكثر من الجاذبية الجنسية المحضة، إلا أن هذا لا يدعونا أن نتراجع عن ما حققناه من حرية فردية للشباب والبنات بل على العكس من ذلك إعطاء كمية أكثر من الحرية الفردية مع التفاعل مع الحضارة الحديثة بكل أبعادها، واستمرار تعميق الحريات الشخصية والتفاعل مع الثقافات الحديثة مع الانتباه إلى تقاليدنا وتحديثها لاحترام الجسد كاحترام النفس تماما والذى تغلفه الشفافية الروحية دون تزيد أو نقصان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved