بين هنا وهناك

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 1 أبريل 2023 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

مات الأبرياء ومات المذنبون، كما تغيرت مصائر كل من عاش الوضع السورى على اختلاف مواقف الناس: من بقى فى الداخل ومن خرج، من دعم الثورة ومن ساند النظام. تبدلت علاقة الكثيرين بالمكان: من أُجبر على الابتعاد وسأم الانتظار، ومن استفاد من الصراع الدائر، ومن حاول التأقلم والطفو على السطح. انعكس ذلك على أعمال العديد من المبدعين السوريين ومن بينهم الفنان التشكيلى محمد عمران الذى يعرض لوحاته للمرة الأولى فى القاهرة حاليا بجاليرى دار الفنون بالزمالك، حتى 19 أبريل الجاري.

الكائنات التى رسمها، تارة بألوان زاهية وتارة بالأبيض والأسود، تطفو فى العدم أو فى واقع غرائبى. رجل بشنب كثيف، وآخر كث الشعر، وثالث بنظارة شمس سوداء تُخفى تعبيرات وجهه. المسدس أو الكلاشنكوف فى يد البعض يشبهان لعب الأطفال، مجرد تفصيلة تشكيلية ضمن أشياء أخرى صغيرة، أحيانا غير مترابطة، لكن وجودها على سطح اللوحة نفسها يخلق بينها علاقات وينسج حكايات فى ذهن المتلقى. منذ اثنى عشر عاما طرأت تحولات على شغل محمد عمران المقيم حاليا بباريس، والذى درس الفنون الجميلة بدمشق وامتهن النحت، بل ودرسه فى الجامعة حيث عمل كمعيد بين عامى 2005 و2007. بعدها ذهب إلى فرنسا للحصول على ماجستير فى تاريخ الفن المعاصر، ثم الدكتوراه، وباغتته الثورة هناك. لكى يعبر عن الصدمة، ركز أكثر وقتها على الرسم الذى كان دائما يمارسه على نحو موازٍ، فالرسم أسرع فى التنفيذ من النحت وبالتالى سمح له فى تلك الفترة بتفريغ الشحنة الانفعالية وتلبية حاجته بشكل أفضل.
• • •

ظل جسد الإنسان هو هاجسه الأساسى سواء فى النحت أو الرسم، وفى بدايات الثورة صار هذا الجسد «هجينا»، به شىء وحشى، منفر ومثير للسخرية فى آنٍ واحد. جسد يحاول أن يمثل حجم الأزمة والألم. رسوماته كانت حينها أكثر مباشرة، محملة بالإسقاطات السياسية والإشارات للسلطة البطريركية. وفى مرحلة تالية، بين 2015 و2017، عبرت أعماله عن فكرة الانتظار، فكلنا فى انتظار شىء ما: الخروج من السجن، الرحيل، الاستقرار، نهاية الحرب، الموت، الفرح، الحب... صَوّر فى لوحاته شخصيات تحترف الانتظار، جميعها فى وضعية جلوس، تتشارك طاولة فى مقهى أو مقاعد فى الفضاء العام. وبعد أن تعبت هذه الشخصيات من الانتظار، صار عليها التأقلم مع الوضع، ضمن أجواء ساخرة وعدمية. ربما فهموا مثلهم مثل الفنان نفسه أنه لا عودة لبلادهم على المدى القريب وأن عليهم إعلان الحداد كى يتمكنوا من استكمال مسيرة حياتهم أينما وُجِدوا. لذا فى المعرض الحالى، أصبح الأفراد الحاضرون فى اللوحات أقل اكتراثا، أقرب إلى الخفة من الألم السابق، تكيفوا نوعا ما مع المأساة. أجسادهم عالقة على سطح اللوحة، تطفو فى المطلق، أحيانا مقلوبة، رءوسها لأسفل وأرجلها لأعلى. أبطاله على الأغلب من الرجال الذين ينتمون لنهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، خزنهم بالذاكرة الفنان التشكيلى الذى ولد بدمشق عام 1979.

يحاول محمد عمران أن يتوازن فى علاقته مع الذاكرة، أن يشاركنا هذه الذاكرة التى تخصنا جميعا، لكن بطريقته الخاصة، وهو بحاجة إلى هامش من اللعب لكى يفعل ذلك، دون محاكاة الواقع بالضرورة. يسعى إلى إعادة التفكير فى علاقته بالمكان، إلى الاندماج ولكن ليس بشكل سطحى... فى مرسمه بضاحية «إيفرى سير سين» الباريسية يستحضر وجوها وتفاصيل وأجساما كلها أتت معه من سوريا، وستظل ترافقه، إقامته بفرنسا غيرت الألوان والعلاقات بينها، أضفت عليها ربما تنوعا بصريا. صارت هذه الشخصيات مثله تقف بين هنا وهناك، لا تستطيع العودة إلى حيث كانت، ولا الاستقرار التام حيث هى الآن، لذا من الأسهل أن تطفو بخفة، أن تتخلص من الجاذبية الأرضية وتعلو فوق الواقع. ساعده ميلاد ابنته قبل ثمانى سنوات على خلق عالم طفولى، سريالى، غرائبى، ألوانه مبهجة، كى تتحرك فيه الشخصيات وتلهو مثل مبدعها وكما تلهو بها الحياة. أحيانا يتعرف الناس على ملامح شخصية سياسية بارزة أو يجدون شبها بينها وبين أحد عرفوه، هذا يمسك بمسبحته، وذاك مسلح بهراوة، وآخر يختبئ فى ملابس «مخبر سرى»، إلى ما غير ذلك.
• • •

لا يهتم عمران كثيرا بأن يُلصق به تصنيف «فنان ملتزم»، فليس بالضرورة أن تتحدث أعماله عن الدمار والصراع ومأساة بلاده بشكل مباشر، كى يأخذها الجمهور على محمل الجد. يكتب مقالات نقدية وينشر دراسات جادة عن فنانين آخرين عاشوا بين ثقافتين أو عن الجسد فى الفن السورى، يمارس بعض الأنشطة المرتبطة بالعلاج بالفن ويُنجز أعمالا تشكيلية بين النحت والرسم. يتفهم طبيعة المرحلة، فالموضوع السورى قد سُحب كثيرا إلى الوراء، لم يعد موضة كما كان قبل سنوات، وحاليا معظم الاهتمام الأوروبى والعالمى ينصب على أوكرانيا، وعلى الفنانين السوريين أن يتعاملوا مع ذلك، كما تعامل معه غيرهم من دول الربيع العربى أو أبناء فلسطين والعراق فى وقت سابق. بالطبع سيؤثر وجود العديد منهم فى الخارج على إنتاجهم، كما رأينا فى فترات ماضية حين أدت الهجرات الواسعة بسبب العنف والصراعات إلى تغييرات كبيرة فى تاريخ الفن المعاصر، فالإنسان مهاجر بطبيعته ويستقر حين يجد مكانا يؤمن له احتياجاته، وإلا يظل عالقا كما فى لوحات محمد عمران.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved