100 يوم على وقف إطلاق النار فى حرب الحضارات
هاني شكر الله
آخر تحديث:
الجمعة 1 مايو 2009 - 4:42 م
بتوقيت القاهرة
بعد مائة يوم من دخول باراك حسين أوباما المكتب البيضاوى كاد العالم أن ينسى ــ أو دعنا نتوخى الدقة فنقول يعتاد ــ المأثرة التاريخية الأهم لاعتلائه مقعد الرئاسة الأمريكية، تلك النابعة من أصوله العرقية والثقافية.
مائة يوم فقط كانت كافية لكى يفقد العالم دهشته بأن رجلا أسود، من أب مسلم، واسمه الأوسط «حسين»، يتربع على سدة الحكم فى الولايات المتحدة، القوى العظمى الأولى فى العالم.
أن يعتاد العالم، فى غضون ثلاثة أشهر وثلث الشهر، أمر لم يكن لأحد أن يصدق حدوثه حتى عام مضى، هو بدوره مؤشر مهم لبعض من أبرز مميزات رئاسة أوباما خلال المائة يوم الأولى لها.
فيبدو فى واقع الأمر أن أجندة أوباما، وطابع أدائه قد سرقا الضوء منه هو نفسه، فطغت أفعاله على ماهيته، وبدا الشخص متطابقا مع برنامجه، ذلك البرنامج الذى أقدم على تحقيقه بخطوات مسرعة، ليعمل على التصدى لجملة من الأزمات الكبرى المحيطة برئاسته فى نفس الوقت، ودون تأجيل لواحدة حتى ينتهى من أخرى.
القائمة صارت معروفة، إجراءات لمعالجة الأزمة المالية العالمية، على المستويين الأمريكى والعالمى، إجراءات لمعالجة الكوارث البيئية المحدقة بالعالم وفى مقدمتها التغير المناخى، إجراءات لإدخال قدر من العدالة الاجتماعية على النظام الرأسمالى الأمريكى، وهو الذى يفوق جميع الدول الصناعية المتقدمة فى افتقاده للعدالة.
وللخدمات الاجتماعية وفى ارتفاع نسبة الفقر وحدته بين سكانه، إعلان قرار بالانسحاب من العراق خلال عام ونصف العام، محاولة معالجة الوضع المنهار فى أفغانستان من خلال رفع حجم القوات الأمريكية، وفى الوقت نفسه الإعراب عن استعداد للحوار مع الأجنحة المعتدلة من الطالبان.
قرار بإغلاق معسكر جوانتانامو، قرار بإغلاق المعتقلات السرية للـ سى أى إيه حول العالم، قرار بالإفراج عن الوثائق السرية المتعلقة بوسائل التعذيب التى استخدمت فى إطار «الحرب ضد الإرهاب»، إجراءات متعلقة بحماية الحقوق المدنية للمواطنين الأمريكيين بعد ما تعرضت له من انتهاكات فى فترتى رئاسة بوش.
رسالتان للعالم الإسلامى، الأولى فى خطاب التنصيب، والثانية فى أنقرة، يعلن من خلالهما رغبته فى فتح صفحة جديدة فى العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامى.
تعيين جورج ميتشيل مبعوثا للشرق الأوسط، تصريحات قوية حول إصرار أمريكا على حل الدولتين للصراع العربى ــ الإسرائيلى، وتلميحات بالاستعداد للحوار مع حماس وحزب الله، رسالة إلى الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد والقيادة الإيرانية يعرب فيها عن رغبة أمريكية فى فتح حوار بين البلدين بلا شروط مسبقة، اللقاء الودى مع القادة اليساريين لأمريكا اللاتينية، وفى مقدمتهم عدو بوش اللدود شافيز، والإعلان عن رغبة أمريكية فى فتح صفحة جديدة مع كوبا.
القائمة السابقة تحفل بالألغام، وخطوات إدارة أوباما فى مختلف الملفات الساخنة ما زالت فى بداياتها، وتواجه عثرات كبرى داخليا وخارجيا. ولكن يبقى هناك إنجاز تاريخى كبير حققه أوباما بالفعل.
وهو ذلك المتمثل فيما وصفته افتتاحية لجريدة «النيويورك تايمز» (تعرضت لها فى مقال سابق) بإنهاء «الأسطورة السامة لصدام الحضارات» وأفضل وصفها بإعلان لوقف إطلاق النار فى «حرب للحضارات»، أعلنها جورج بوش صبيحة 11 سبتمبر 2001، واستمرت حتى نهاية حكمه.
«صدام الحضارات» أسطورة سامة بالفعل، ولكن كذا كانت نظرية التفوق العرقى للجنس الآرى. تاريخ البشرية مزدحم بملايين الجثث ذهب أصحابها ضحية للأساطير. قصة تحول الأسطورة السامة إلى حقيقة قاتلة تستحق أن نستعرض بعضا من حلقاتها، لعل ذلك الاستعراض يعيد إلى الذاكرة هول ما كان مشروع بوش وتشينى ينطوى عليه، ويؤكد الأهمية التاريخية لهزيمته، ولقطع الطريق على عودته.
بدايات هذه الأسطورة تمد بجذورها فى أعماق التاريخ، غير أنها، وعلى غير ادعاءاتها عن نفسها، ليست منتجا تاريخيا إنما هى صناعة حديثة شديدة الحداثة، تلبى احتياجات معاصرة شديدة المعاصرة، التاريخ عندها هو محض مادة خام، تنتقى من بينها ما يمكن توظيفه، وتلقى جانبا ما لا ينفع.
أما البداية الحقيقية لقصتنا فربما تعود إلى عام 1990، أى بعد عام واحد من سقوط حائط برلين، والتى شكلت اللحظة الحاسمة فى الانهيار المتسارع لما سمى بالمعسكر الاشتراكى، وكان الرئيس الأمريكى رونالد ريجان قد أطلق عليه مسمى «إمبراطورية الشر».
فى 1990 نشرت المجلة الأمريكية اليمينية، «اتلانتيك مانثلى»، مقالا بعنوان «جذور النقمة الإسلامية»، لمؤلفه برنارد لويس، وفيه قدم الجاسوس البريطانى شبه المتقاعد، والصهيونى المتطرف، والمستشرق الكهل، وصفة سحرية لصناعة عدو جديد لأمريكا و«الغرب»: العالم الإسلامى. المسلمون.
«ليس هذا بأقل من صدام حضارات ــ إنه رد الفعل التاريخى، وربما اللاعقلانى، من قبل خصم قديم فى مواجهة ميراثنا اليهودى ــ المسيحى، وحاضرنا العلمانى، والانتشار العالمى لكل منهما». نظرية لويس، أو أسطورته بسيطة بقدر زيفها، المسلمون يتملكهم حقد دفين على الغرب، فهم الخصم التاريخى القديم «للتراث اليهودى المسيحى».
ومما يزيد من حقدهم ويشعل نقمتهم أنهم فشلوا فيما نجح الغرب فيه، فهم يرفضون الحداثة والعقلانية الغربية، وفى الوقت نفسه تمزقهم الغيرة من تقدم الغرب الصناعى والتكنولوجى وتفوقه العسكرى والاقتصادى.. إلخ، فى حين يقبعون هم أسرى الفشل والتخلف واللاعقلانية، والحنين المستحيل إلى ماض وصل بالمسلمين إلى أبواب فيينا.
يتلقف النظرية أكاديمى آخر أكثر بلادة وأقل حنكة، هو صمويل هنتجتون، فيكتب مقالا ثم كتابا كليهما تافه، وكلاهما معنون «صدام الحضارات»، ليصوغها كنظرية عالمية، مبشرا بنهاية عهد الصراعات الأيديولوجية التى ميزت عقود الحرب الباردة، وعودة البشرية إلى مواطن الصدام الحقيقية، أى الاختلاف الحضارى.
يظل المسلمون فى الواقع هم القصد الفعلى للنظرية، يصوغهم، أسوة بأستاذه الصهيونى، فى صورة النقيض الكامل للحضارة الغربية «اليهودية المسيحية»، وذلك رغم أنه يبذل جهدا لتقسيم البشرية بأسرها لكتل حضارية متنافرة، وهو جهد يتسم بكسل ذهنى مبهر، إلى حد أن الكاتب يقول صراحة إنه غير واثق من إذا كانت البشرية تتكون من سبع أو ثمانى مجموعات حضارية.
جاءت أسطورة صدام الحضارات لتلبى احتياجا ملحا للنظام الأمريكى لإيجاد عدو عالمى يحل محل المعسكر السوفييتى البائد، ومن ثم يضمن للولايات المتحدة الحفاظ على «زعامتها العالمية»، وإعلاء أهمية الأمن ومن ثم السلاح، مجال تفوقها المطلق، وبلا منازع.
تلقفتها وسائل الإعلام، ووجد فيها تحالف اليمين الأمريكى، وثيق الصلات بالمجمع العسكرى الصناعى، والمحافظون الجدد، واللوبى الإسرائيلى واليمين المسيحى، وجدوا فيها ضالتهم فى إيديولوجية مشتركة وبرنامج عمل مشترك قوامه إعلان الحرب على المسلمين (وليس على الإسلام كما يحلو للكثيرين بيننا أن يتصوروا)، ليس خوفا منهم ولكن ردعا للآخرين.
فى 11 سبتمبر 2001 قدم السيد أسامة بن لادن وفرقته الفرصة التاريخية لمحور الشر الأمريكى لكى يشن حربا أرادها صراحة حربا عالمية مستمرة، ولا نهاية لها تحت مسمى «الحرب على الإرهاب».
خرج بوش وزمرته من البيت الأبيض بعد أن حال تنامى السخط بين الشعب الأمريكى، والعالم بأسره، على سياسته دونه والانتقال إلى حلقة جديدة من حربه العالمية المستمرة، أرادها ختاما لعهده وتصورها نيشانا على صدره، وذلك بشن هجوم مسلح على إيران.
أيا ما كان تقييمنا لما فعله أوباما أو لم يفعله خلال المائة يوم الماضية، فلا يجب أن نغفل قط أن حصيلة ما سبق وأشرنا إليه من إجراءات وإيماءات ورموز إنما هى بمثابة إعلان بوقف إطلاق النار فى «حرب الحضارات»، وليس ذلك بأمر يمكن للتاريخ أن يمر عليه دون اعتبار.