فى زمن المجازر: جعجع مرشحًا لرئاسة الجمهورية

رابحة سيف علام
رابحة سيف علام

آخر تحديث: الخميس 1 مايو 2014 - 7:00 ص بتوقيت القاهرة

استقبل العديد من المراقبين خبر ترشح سمير جعجع للرئاسة فى لبنان بكثير من الاستنكار، فالرجل يعد من مجرمى الحرب وارتكب مذابح عدة أثناء الحرب الأهلية إما لإزاحة خصومه أو لتنفيذ أجندة إسرائيلية. ومن أشهر جرائمه اغتيال رئيس الوزراء رشيد كرامى عام 1987، واغتيال تونى فرنجية وزوجته وطفلته بمجزرة إهدن صيف1978، فضلا على الإشراف على تصفية مدنيين فلسطينيين قاربوا الألفين بمجزرتى صابرا وشاتيلا ثأرا لاغتيال بشير الجميل خريف 1982.

وهنا يأتى السؤال: كيف تجرأ جعجع على الترشح للرئاسة وفى جعبته هذا الماضى الدامى؟ ولكن التفكير المنطقى يتعثر بعد طرح هذا السؤال، إذ إن جعجع ليس مجرم الحرب الوحيد الطامح للرئاسة، فكيف نلومه على طموحه وهو قاتل لبضعة آلاف، فى حين أن بشار الأسد قاتل عشرات الآلاف يفرض نفسه على مستقبل سوريا بكل وقاحة. فحتى حزب الله، وهم أشد معارضى جعجع اليوم، يأخذون عليه مجازره القديمة وينسون أنهم أنفسهم يتسببون حاليا فى مجازر يومية بسوريا. فالاختلاف إذن ليس على ارتكاب المجازر من عدمه ولكن كيف يتم التسويق والتبرير لها.

فى المقابل، نجد أن أنصار جعجع اليوم ليسوا فقط الموارنة المعادين لسوريا، فقوى 14 آذار وفى القلب منها تيار المستقبل تؤيده. فجعجع لا يختلف كثيرا عن بقية أمراء الحرب الأهلية اللبنانية، فكلهم مسئولون عن إراقة دماء كثيرة تعدت عتبة المائة وثلاثين ألفا خلال خمسة عشر عاما. لكن ربما الفارق الأساسى أن نظراءه من الطوائف الأخرى قد خرجوا من الحرب لقيادة البلاد واقتسام السلطة. غير أن جعجع قد خرج من الحرب إلى السجن بتهمة اغتيال رئيس الوزراء كرامى. وهنا نجد أن جعجع يعد الزعيم الوحيد الذى تمت معاقبته على بعض جرائمه لقضائه فترة 11 عاما فى السجن قبل أن يخرج بعفو عام 2005، فيما أن بقية أمراء الحرب لم تتم محاسبتهم بل كوفئوا بالمناصب العليا. ولم يشفع لجعجع أنه كان من المرحبين باتفاق الطائف الذى أنهى الحرب اللبنانية، باعتباره سيزيح غريمه التقليدى من الحكم آنذاك وهو الجنرال ميشال عون، بل تم استبعاده هو الآخر من اللعبة السياسية.

•••

رغم هذه التناقضات، هناك فى رأيى ما يستحق الدهشة أكثر من طموح جعجع إلى الرئاسة. وهو أن دولة كلبنان تجد نفسها فى مأزق متكرر كل ست سنوات للبحث عن رئيس وكأن الأمر يُعد مفاجأة غير متوقعة رغم أنه استحقاق دستورى طبيعى. فرحلة البحث عن الرئيس العتيد قد تتطور إلى أزمة سياسية حادة أو فراغ رئاسى لعدة أشهر أو ربما اشتباكات عنيفة. وفى كل مرة يجد لبنان نفسه مضطرا إما لقبول مرشح عسكرى أو ربما القبول هذه المرة بمجرم حرب رئيسا للبلاد. المشكلة فى ظنى تعود لطبيعة النظام اللبنانى ككل، فبعد أن حظى الموارنة بأغلب السلطات من خلال السيطرة على موقع الرئاسة منذ تأسيس الدولة الحديثة، اضطروا لتقاسم السلطات مع غيرهم من الطوائف وبخاصة السنة والشيعة بموجب اتفاق الطائف، فانتقلت أغلب سلطات الرئيس المارونى لتكون بيد مجلس الوزراء المتعدد الطوائف. ومشكلة الطائف ليست فى إعادة توزيع السلطات بشكل متوازن كما حدث بنص الاتفاق، لكن فى التنفيذ المجتزئ لكونه قد تم تحت الوصاية السورية. مما أدى فعليا إلى استبعاد مناوئى سوريا من المعادلة السياسية إما بالسجن أو النفى، فيما حظى حلفاؤها بكعكة السلطة كاملة.

•••

والمشهد اللبنانى اليوم ليس أقل تعقيدا عما سبق، فالنظام السياسى بالإضافة إلى كونه طائفيا وشديد التأثر بالاضطرابات الإقليمية، فإنه أيضا شديد النخبوية والانغلاق بما لا يرقى إلى تطلع الشعب اللبنانى وغيره من شعوب المنطقة للانفتاح وتجديد الدماء فى أروقة الدولة المهترئة. ولعل كون انتخاب الرئيس محصورا بيد البرلمان يجعل من الأمر مجرد مباراة بين زعماء الكتل النيابية أكثر من كونه استحقاقا انتخابيا حقيقيا. فالمرشحون لا يقدمون برامج ولا مناظرات بل يقدمون أوراق ترشيحهم إلى الكتل البرلمانية بتسجيل موقف حاد هنا وإطلاق تصريح نارى هناك. وعادة ما يستدعى تدهور الوضع السياسى إلى اللجوء إما لتمديد العهد الرئاسى أو لتمرير الانتخابات بالتوافق حول مرشح معين دون تنافس حقيقى منعا لتطور المنافسة إلى نزاع عنيف. ولهذه القاعدة استثناء وحيد حدث عام 1970 حيث احتدم التنافس وفاز حينها الرئيس سليمان فرنجية بفارق صوت واحد عن إلياس سركيس، ولكن فى عهده اندلعت الحرب الأهلية. فإذا كان جعجع يقدم نفسه اليوم باعتباره من خارج النخبة التى حكمت بعد الحرب وباعتباره حاملا لمقولات الدولة القوية ذات الحق الحصرى فى امتلاك السلاح، فإنه ليس بالقطع بالانفتاح الذى يحاول ادعاءه. فقد سبق وعارض مقترحات تدعو إلى تعديل الدستور لانتخاب الرئيس من الشعب مباشرة عوضا عن انتخابه من جانب نواب البرلمان، لظنه حينها أن ذلك سيصب لصالح غريمه ميشال عون لامتلاكه وحلفائه الأغلبية العددية على الأرض. ويُحسب اليوم للرئيس ميشال سليمان رفضه لتمديد ولايته، وهو الذى كان مرشحا توافقيا قادما من قيادة الجيش مباشرة إلى سدة الرئاسة بالمخالفة للدستور الذى يمنع كبار موظفى الدولة من تبؤ الرئاسة إلا بعد مضى عامين من ترك المنصب، ولكن قيل حينها إن الضرورات تبيح المحظورات.

واليوم الضرورات قد تبيح المحظورات مرة أخرى، فجعجع الذى تجرأ على الترشح اليوم فى زمن صارت المجازر فيه روتينا يوميا لن يكون لحسن الحظ قادرا على تدبير أغلبية برلمانية تصوت له. كما أن أفكار جعجع قد تؤدى بحق إلى نشوب حرب أهلية جديدة نظرا لهشاشة الوضع الأمنى فى لبنان وتأثره بسوريا. فاحتكار الدولة للسلاح رغم كونه مبدأ شرعيا ولابد من تنفيذه على المدى الطويل، فإن الجنوح لتنفيذه بشكل عاجل قد يؤدى إلى صدام محقق بين حزب الله من جهة والجيش اللبنانى من جهة أخرى. وحينها لن يكون هم لبنان الأكبر هو منع تمدد الحرب السورية إلى داخل حدوده، بل سيكون لديه حربه الأهلية الخاصة.

•••

وبخلاف جعجع، نجد مرشحين آخرين معتادين. فميشال عون ينقصه تدبير اتفاق مع تيار المستقبل ومن ورائه السعودية بما يساعده على حصد الأغلبية إلى جانب تحالفه المتين مع حزب الله وحركة أمل. فإذا فشل تنشأ الحاجة لمرشح توافقى من أجهزة الدولة كقائد الجيش أو محافظ البنك المركزى رغم خرق ذلك للدستور. لكن هل يجرؤ الزعماء اللبنانيون حقا على التفكير خارج الصندوق وانتخاب شاب لا يحمل أثقال الماضى الدامى ولا يخالف الدستور بترشحه؟ أعتقد أن هذا المرشح يتمثل فى زياد بارود وزير الداخلية الأسبق الذى جاء إلى الوزارة بفكر حقوقى متطور فأحدث نقلة نوعية بتحديث أدوات الانتخابات والتزام الحياد، فحصد حب واحترام اللبنانيين كافة. ورغم أنه لم يكن مرشحا فى الانتخابات النيابية آنذاك إلا أن عددا كبيرا من الناخبين فى مختلف المناطق قد كتب اسمه على أوراق الاقتراع فى إشادة بدوره فى تحديث العملية الانتخابية. النموذج الذى قدمه بارود كرجل دولة يستحق أن يصبح رئيسا، وحينها لن يكون مرشح التوافق أو الجيش أو الضرورة بل سيكون مرشح المجتمع المدنى الحالم بإخراج لبنان من طائفيته ليكون وطنا لجميع أبنائه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved