للبطالة المقنعة وجوه عديدة!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الثلاثاء 1 مايو 2018 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

من بين ما أصاب الدول النامية من مشكلات مستعصية، تفاقم مشكلة البطالة فى مواردها الاقتصادية، وما تمخض عنها من ضعف شديد فى طاقتها على النمو الاقتصادى. فعلى الرغم من حاجة هذه الدول الماسة للنمو المولد من التوظيف الكامل والكفء لمواردها الاقتصادية، إذا بمظاهر البطالة تنتشر عبر خريطتها الاقتصادية، ويتعطل جزء مهم مما تملكه من موارد، ولا يساهم الجزء الآخر بكفاءة فى أنشطتها الإنتاجية.
وإذا كانت الدول المتقدمة تعانى هى الأخرى من مشكلة البطالة، لكن هناك خلافا جوهريا بينها وبين الدول النامية فى نوعية وعمق تلك المشكلة، وللدرجة التى تمكننا من القول بأننا لسنا أمام مشكلة بطالة واحدة، بل بطالتين: «بطالة متقدمة» و«بطالة نامية»!
****
عندما تُذكر مشكلة البطالة، فإن المعنى الذى يذهب إليه ذهن القارئ مباشرة هو وجود شخص يقدر على العمل، ويبحث عن فرصة مناسبة فى سوق العمل، ولكنه، مع ذلك، لا يجدها. وهذا المعنى على صحته، فهو يُعبر فقط عن التعريف الضيق للبطالة السافرة. أما البطالة السافرة بمعناها الواسع فإنها لا تقتصر على تعطل نسبة من قوة العمل، وانتفاء مشاركتها فى العملية الإنتاجية فحسب، بل تشمل كذلك تعطل بعض الموارد المالية والطبيعية عن المشاركة فى تلك العملية. فعندما تتكدس الموارد المالية فى الجهاز المصرفى دون أن تُمول الاستثمار المنتج، وعندما توجد موارد طبيعية غير مستغلة فى الإنتاج، فإن ذلك يضاف إلى رصيد البطالة السافرة بالمعنى الواسع لهذه المشكلة المستعصية.
وبغض النظر عن ضيق واتساع المفهوم السابق للبطالة السافرة، فإن الدول النامية تتفرد بنوع إضافى من أنواع البطالة، ألا وهو البطالة المقنعة Disguised Unemployment. فإلى جانب انتشار البطالة السافرة بمفهومها الواسع فى جسدها الاقتصادى، فإن هذه الدول تعانى من:
أولا: التعارض بين عدد موظفى الحكومة وبين إنتاجيتهم الكلية. فالتوظيف الحكومى للموارد البشرية لاعتبارات غير اقتصادية ساهم، إلى جانب عوامل أخرى، فى ترهل الجهاز الحكومى، وفى وجود ظاهرة «عاملون لا يعملون». فهناك شطر لا بأس به فى صفوف العاملين الحكوميين ليست لهم أية قيمة إنتاجية مضافة، ويشكلون عبئا شديدا على كاهل الإنتاجية الحكومية.
ثانيا: التناقض بين وفرة وتنوع الموارد الطبيعية وبين العوائد المولدة من توظيفها فى العملية الإنتاجية. فأغلب الدول النامية تمتلك موارد طبيعية وفيرة. ومع ذلك، لا تستخدم تلك الموارد فى أوجه استخدام مرتفع القيمة المضافة. فبين تبديد جانب من تلك الموارد محليا فى أنشطة أولية غير مُفيدة تنمويا، وبين تصدير جانب آخر منها فى شكله الخام رخيص الثمن، تضيع على تلك الدول عوائد اقتصادية متنوعة، وتفقد موردا طبيعيا قد لا تجود به الطبيعة مرة أخرى (حالة الموارد الطبيعية الناضبة كالنفط).
ثالثا: التفاوت بين المدخرات المالية فى البنوك المحلية وبين العوائد من استثمار تلك المدخرات. فعلى الرغم من تواضع الجهد الادخارى فى أغلب البلدان النامية، فإن معظم الموارد المالية المتاحة فى البنوك تذهب لتمويل أنشطة استهلاكية (للحكومة والقطاع العائلى) وخدمية منخفضة العائد التنموى. وفى المقابل، تتصاغر حصة الأنشطة الصناعية التنموية من تلك الموارد الشحيحة.
والحق، أن المزج بين العناصر الثلاثة السابقة يظهر إلى أى مدى تعانى أغلب البلدان النامية من تفاقم ظاهرة البطالة المقنعة، ويكشف للقارئ أن مشكلة البطالة المقنعة ليست مجرد وجود عامل حكومى لا يعمل، كما يشير تعريفها الشائع؛ بل هى أيضا مورد طبيعى لا يستخدم بكفاءة اقتصادية، وأموال لا تستثمر فى وجهتها التنموية الصحيحة.
****

وإذا انتقلنا لتحليل الوضع فى مصر، فإنه من الثابت أن الاقتصاد المصرى، شأنه شأن أغلب البلدان النامية، يعانى من ظاهرة البطالة السافرة بمعناها الواسع. ففيما يتعلق بموارده البشرية، فإن البيانات الإحصائية التى يعلنها جهاز الإحصاء تشير إلى أن معدل البطالة السافرة قد بلغ 12.5% خلال العام 2016. وفيما يتعلق بموارده المالية، فإن المركز المالى الإجمالى للبنوك للعام 2016 يوضح وجود نسبة معتبرة من الأصول المالية ظلت فى شكل سائل، ولم توظف فى أية أنشطة استثمارية مجدية. أما فيما يتعلق بموارده الطبيعية، فلست فى حاجة لمسوح إحصائية لأدلل على كم الموارد الطبيعية المنتشرة فى الصحراء المصرية الشاسعة، والموجودة فى شواطئها الممتدة عبر البحرين الأحمر والمتوسط، والتى لم تصل إليها التنمية عبر ذراعها الاستثمارية. ولذلك، عندما سئلت ذات مرة عن صحرائنا وشواطئنا الشاسعة، قلت: حيث ينتهى العمران، تبدأ موارد مصر الحقيقية!
ولئن كان ذلك هو الوضع الراهن لمشكلة البطالة السافرة فى الاقتصاد المصرى، فماذا عن معاناته من ظاهر البطالة المقنعة؟ وهل تضيق هذه المشكلة لتقتصر على التعطل المُقنع فى أروقة الجهاز الحكومى، أم تتسع لتشمل باقى عناصر الإنتاج المصرية؟
إن دلائل تفشى مشكلة البطالة المقنعة بين موظفى الحكومة هى مما يسير به الركبان. فما رأى القارئ مثلا فى أن جهازا حكوميا واحدا به عشرات الآلاف من الموظفين، فى حين أن حاجته الفعلية لا تصل لعُشر هذا العدد؟! وما رأيه أيضا فى أن بعض هيئات وشركات القطاع العام يتكدس بها الموظفون المُعينون لاعتبارات غير إنتاجية، ناهيك عن كونها اعتبارات غير عادلة فى أحيان كثيرة؟! ألم يذهب يوما إلى إحدى الإدارات الحكومية الخدمية، فشاهد بأم عينيه موظفين لا يعملون؟! لذلك، أعتقد أن القارئ لديه من الدلائل ما يكفينى عناء إثبات انتشار مشكلة البطالة المقنعة، وما يثبت أننا أمام حكومة تفيض بموظفيها!
على أن تفاقم ظاهرة البطالة المقنعة فى دولاب الموظفين الحكوميين ــ على النحو الذى أوضحته حالا ــ قد حجب الرؤية عن باقى مكونات البطالة المقنعة فى الاقتصاد المصرى. غير أن تحليلا مُنضبطا لطبيعة الأنشطة الإنتاجية فى الاقتصاد المصرى بشكلها الراهن، يمكنه أن يضع أيدينا على مظاهر البطالة المقنعة فى استخدام موارده الطبيعية والمالية.
لننظر الآن للتوجهات العامة لتوظيف الموارد الطبيعية التى حبا الله مصر بها. ها هنا نجد أن الأرض وما حَوَت من موارد غالبا لا تستخدم محليا فى الأنشطة الاقتصادية عالية القيمة المضافة. فالرقعة المزروعة باتت منخفضة الإنتاجية؛ وتراجعت الزراعة الصناعية الواسعة؛ وانقطعت الصلة بين الزراعة والصناعة إلا فيما ندر؛ وانتهكت الأنشطة العقارية العشوائية البقية الباقية من الأراضى الزراعية المكلومة. كما أن الموارد الناضبة المستخرجة من باطن الأرض المصرية مازالت هى الأخرى تستخدم فى أنشطة إنتاجية ضعيفة الأثر الصناعى المستدام، وغالبا ما تُصدر تلك الموارد فى شكلها الأولى أو الثانوى غير الصناعى.
وعن طبيعة التوظيف المتحيز للموارد المالية المتاحة فى الجهاز المصرفى، فحدث ولا حرج. ويكفى هنا أن نذكر أن المركز المالى الإجمالى للبنوك فى العام 2016 يشير إلى أن أكثر من نصف الأصول البنكية توظف فى الأوراق المالية وأذون الخزانة العامة، ولا تذهب لتمويل الأنشطة الصناعية الضرورية للنمو الاقتصادى. وإذا أضفنا لذلك أن الائتمان الاستهلاكى الخاص يلتهم حصة إضافية من جملة الائتمان السنوى الممنوح من البنوك، فإن المحصلة النهائية هى انخفاض نصيب الزراعة والصناعة من التمويل البنكى.
فى ضوء هذا كله، فإن الفرق بين الشكل الراهن لتوظيف الموارد البشرية والطبيعية والمالية المصرية وبين الشكل التنموى لتوظيفها واستخدامها، يمثل فى رأيى إضافة صافية لرصيد البطالة المقنعة المصرية بمعناها الواسع.
****
إن المسالة التى أطرحها فى هذا التحليل ذات شقين؛ أحدهما يظهر فى أن التشخيص الدقيق لمشكلة البطالة لا ينبغى له أن يغفل إدراج مشكلة البطالة المقنعة بمعناها الواسع لا الضيق. والآخر يكمن فى أن التصدى لمشكلة البطالة المقنعة يجب أن يكون ضمن الأولويات الأولى لبرامج الإصلاح الاقتصادى الحقيقية، متفوقا فى أولويته على تعديل الجوانب المالية والنقدية.
وإذا سألتنى عن رأيى فى الكيفية التى يمكن بها التصدى لمشكلة البطالة المقنعة فى مصر، ففى جُعبتى حلول ثلاثة:
أولها: حتمية تدوير الموارد البشرية بين الأجهزة والأنشطة الحكومية المختلفة، بعد منحها التدريب التحويلى الضرورى. وتظهر أهمية ذلك الحل عندما نعلم أنه فى الوقت الذى تعانى فيه أجهزة حكومية من ظاهرة «عاملون لا يعملون»، فإن هناك أجهزة وأنشطة حكومية أخرى تفتقر للكوادر البشرية المدربة لكى تنهض بأدوارها، وخصوصا الأنشطة الإحصائية والميدانية والرقابية المختلفة.
ثانيها: أهمية رسم استراتيجية متطورة للارتقاء الزراعى والصناعى والإحلال محل الصادرات. ولن يكتب لهذه الاستراتيجية النجاح إلا إذا اهتمت بتطوير منظومة الحوافز الاستثمارية والإنتاجية والتصديرية فى الاقتصاد المصرى، وركزت على تعزيز التشابكات التبادلية بين قطاعى الزارعة والصناعة من جانب، وبينهما وبين قطاع الصادرات من جانب آخر. كما يتعين على هذه الاستراتيجية أن تقيد أنشطة التصدير منخفض القيمة المضافة الذى يستنزف الموارد الاقتصادية الناضبة.
ثالثها: ضرورة أن تحمل السياسة النقدية على عاتقها مهمة القضاء على مزاحمة إصدارات أذون الخزانة للاستثمار الخاص فى الحصول على الائتمان المتاح فى البنوك. وأن تحفز، بأدواتها المختلفة، الائتمان الإنتاجى على حساب الائتمان الاستهلاكى، وخصوصا إذا كان يمول استهلاك السلع المستوردة.
وفى تقديرى أن تضافر الحلول الثلاثة السابقة يمكن أن يرسم برنامجا وطنيا لعلاج مشكلة البطالة المقنعة، وبما يساعد فى تبديد جانب مهم من صور البطالة المقنعة فى أروقة الحكومة المصرية، وفى رفع كفاءة وإنتاجية الموارد المالية المصرية، وقبل ذلك، المساهمة فى وقف نزيف موارده الطبيعية الناضبة. فما أحوج الاقتصاد المصرى لمثل هذا البرنامج؟!

msyoseff@gmail.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved