والأزهار أيضاً تعاني

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الجمعة 1 مايو 2020 - 1:55 ص بتوقيت القاهرة

قبل نحو أسبوعين نشرت جريدة الشرق الأوسط تحقيقاً عن المعاناة التي تعانيها تجارة الأزهار في هولندا بعد انتشار وباء كورونا، هذا التحقيق بدا لي مختلفاً لأنه فتح عيوننا على تفاصيل دقيقة كانت قد غابت عنا لأن المشهد العام كان مثيراً بما يكفي لصرف الأنظار عن تفاصيله. يقول التحقيق الصحفي إن مملكة الأزهار الهولندية أبقت على متاجر بيع الورود ومستلزمات الحدائق مفتوحة طوال أيام الحظر، صحيح أنها اشترطت مراعاة الإجراءات الصحية الصارمة في تعقيم أدوات الزراعة وتطهير عربات التسوق، وصحيح أنها تشددت في المحافظة على المسافة الاجتماعية فيما بين الزبائن وبعضهم البعض، لكنها لم تأمر أبداً بإغلاق منافذ بيع الأزهار. رأت الحكومة الهولندية أن تنسيق الأزهار في المتاجر يخفف من التوتر النفسي للمواطنين ويحافظ على لمسة الجمال في بيوتهم، وتصوَّرَت أن إتاحة مستلزمات الزراعة للهولنديين تساعدهم على تشجير حدائقهم وشغل أوقاتهم بما يفيد، ثم إن الأزهار مراسيل مخلصة تحمل القُبل والأشواق والسلامات في وقت يتعذر فيه اللقاء بين الأهل والأحبة أثناء الحظر، وربما وجدَت الحكومة أيضاً أن أزهار التيوليب بالذات حين تُنثَر على الأطباء تتجاوز معنى شكرهم على تفانيهم إلى تعزيز قيمة الانتماء للوطن، فالتيوليب هو العَلَم الذي أهدته الطبيعة للمملكة الهولندية حتى أنه بشيء من الاختزال يمكن القول إن التيوليب هو هولندا وهولندا هي التيوليب. على كل حال أدهشني هذا الترتيب الهولندي الخاص للأولويات: لا مدارس مفتوحة أو جامعات، لا دور عبادة تستقبل المصلين، لا مراكز تجارية أو مقاهي الرصيف، وباستثناء الصيدليات المفتوحة فلا أبواب مشرعة إلا أبواب محال الأزهار، هل هذا الترتيب للأولويات وليد عِشرَة الأزهار وصحبتها؟ وارد جداً فللأزهار لغة وثقافة. راودني طيف زكريا أحمد بأدائه المميز وهو يضغط على الحروف ويمط الكلمات مطاً: شوف الزهور واتعلم.. اتعلمممممم.
***
عندما فاض إنتاج الأزهار عن حاجة السوق الهولندية قررت الحكومة أن توزعها مجاناً على دور المسنين وأيضاً على المستشفيات التي يُعزل فيها المصابون بكورونا، لكن بالتدريج حدث تشبُع تام وتحولت هذه الأماكن إلى حدائق غنّاء فما عادت تحتمل المزيد، صار للعبير اختناق كما كان يقول شاعرنا الكبير فاروق شوشة، وعند هذا الحد اضطر المنتجون لاتخاذ القرار الأصعب على نفوسهم: إتلاف ملايين الشتلات والورود. أكاد ألامس حد الألم الذي ساكَن هؤلاء البشر وهم يُذبلون ما زرعوه، لكن ما باليد حيلة فالحدود مقفولة والسوق الداخلية لا تستوعب حجم الإنتاج الكبير فهولندا هي مشتل العالم. للمفارقة فإنه في نفس التوقيت تقريباً الذي لم يجد فيه التيوليب الهولندي من يشتريه كان النفط هو الآخر لا يجد من يشتريه، تهاوت أسعاره إلى ما تحت الصفر وفقد الذهب الأسود سطوته التي تحرك الأساطيل وتشعل الحروب وتستبيح سيادة الدول، لكن شتان هو الفرق بين النفط والتيوليب، خطف النفط الأنظار واحتلت تقلباته مقدمة نشرات الأخبار، أما التيوليب فعدا هذا التحقيق الصحفي الذي نشرته جريدة الشرق الأوسط لم أصادف أي تنويه. في المقارنة بين الكساد في سوق النفط والكساد في سوق الأزهار النفط يكسب .
***
تقف زهرة التيوليب الهولندية حائرة لا تفهم بالضبط ما الذي يدور حولها وما سر الإهمال الذي تلقاه وهي التي اعتادت أن تكون ملكة الأزهار. إنها منذ نبتت لأول مرة في هذه التربة قبل نحو خمسة قرون تشعر وكأنها تؤدي مهمة مقدسة، تحمل نفحة الجمال من الأراضي المنخفضة التي تسكنها وتروح تذروها في أراض بعيدة وأخرى قريبة لتشيع البهجة وتشرح الصدور، ومع ذلك فليس صحيحاً أن هذه الزهرة الأنيقة تعطي سرها لكل أحد فكل جميل يتدلل. على المستوى الشخصي كانت لي معها تجربة وحيدة لكنها غير ناجحة، حملَت لي ابنتي شتلة التيوليب من مهجرها في النصف الآخر من الكرة الأرضية فطرتُ بها فرحاً، ذاكرتُ تعليمات الزراعة عن ظهر قلب وتعاملتُ مع الشتلة الحبيبة ككنز، حفظتُها بالضبط في درجة الحرارة المطلوبة، غرستُها مطلع الخريف في شهر سبتمبر وكلي أمل أن تتفتح حين يودعنا الشتاء في شهر مارس، حاذرتُ فيض الماء فالماء يحيي ويُغرق، لكن شتلة التيوليب أبت أن تزهر.. سافرَت كل هذه المسافة الطويلة مع ابنتي ثم ماتت في حديقتي فالجو غير الجو والأرض غير الأرض. مر عامان على هذه التجربة ولازلتُ أهيم عشقاً بزهرة التيوليب، أشتريها على فترات متباعدة كلما هفوت إلي رائحتها النفاذة وأهادي بها ذوي المكانة عندي، وفي الأثناء أروح أراقب هذه الزهرة وهي تتطور وتتجدد وتتفنن وتتلون لتناسب كل الأذواق فيجد محبو البمبي والأبيض والبنفسجي فيها ألوانهم المفضلة وتتعدد مصادر إلهام المبدعين من فرط بهائها ويتحرر خيالهم.
***
كم من الوقت يحتاجه العالم ليجدد محبة الأزهار ويعيد لها اعتبارها؟ سؤال لا يملك إجابته أحد، لكن حاسة الشم ستحتاج بالتأكيد إلى إعادة تأهيلها بعد هذه الفترة العصيبة، ستحتاج تأهيلها للتخلص من بقايا روائح المنظفات والمطهرات التي كانت تنفرنا وتزكم أنوفنا فإذا بنا مؤخراً نستطيبها ونطلبها بل ونتصارع عليها. وفي الانتظار سيظل مصير أزهار هولندا وشتلاتها في مهب الريح، وليس أعجب من هذا العالم الذي يعطل متعمداً رئته الطبيعية ثم يروح يبحث تحت أجهزة التنفس الاصطناعي عن شمة هوا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved