نهاية التاريخ.. قراءة مستعادة

حامد الجرف
حامد الجرف

آخر تحديث: الخميس 12 مايو 2022 - 11:49 ص بتوقيت القاهرة

يثير الغزو الروسى لأوكرانيا قضايا متعددة على مختلف مستويات التحليل، من تتبع أسبابها لمتابعة يوميات معاركها وتحليل آثارها، لـتأويل مآلاتها، ومحاولة استقراء شكل النظام الدولى من بعدها؛ إلا أن جهود الكشف عن هوية المتصارعين على الأرض والإمساك بالجوهر الحقيقى للصراع، يشكل مفتاحا حاكما لمغاليق ذلك كله.
وإذا كان المؤكد أن روسيا تسعى لاستعادة مجد قديم وتوسيع نطاق نفوذها، فإن دعواها بأن هدفها من الغزو هو لتأمين نفسها ضد امتدادات الناتو تعد دعوى مردودة، إذ لا يتصور تهديدا لدولة مسلحة نوويا حتى ذقنها بما يشكل رادعا كافيا أمام عدائياتها، فالحرب إذن لم تنشب إلا للمنازعة على المشاركة فى قيادة العالم وتقسيم كعكته جيوسياسيا واقتصاديا. ومن الواضح أن روسيا سعت بقيادتها الحالية وبعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتى للثأر ممن تتوهم مسئوليتهم عن انهياره واستعادة المجد الغابر على محورين هما: إضعاف الخصم وتقوية الذات. ولا شك أن اختراقها للانتخابات الأمريكية دعما لترامب ثم تناغمها مع إدارته كان جهدا على المحور الأول، بينما جاء غزوها لأوكرانيا محاولة لاصطناع معركة تحديد أوزان جهدا على المحور الثانى.
وإذا كانت الولايات المتحدة بقيادة الديمقراطيين قد اتخذت قرارا حكيما وتاريخيا بانسحابها من أفغانستان وهو ما هللت له دول الاستبداد بأنه إعلان هزيمة لها وتراجع لدورها، فإنها وقد بادرت بسحب ما كان لها من قوات بأوكرانيا قبل الغزو الروسى لم تؤكد فقط حكمتها بل وكشفت عن غشامة استبداد الخصم إذ بادر بالغزو رغم سابقة نفيه لعزمه عليه مرارا مورطا بذلك نفسه ولم يحسن قراءة سحب القوة الأمريكية بما يؤكد عدم رشادة القرار فى أى نظام غير ديمقراطى.
وبغض النظر عن سياسات التضليل الدعائى فإن روسيا تعانى سياسيا واقتصاديا وعسكريا من جراء الحرب، وهو ما يزيد سعارها فيها إذ أضحت سمعة الرئيس وهيبته التاريخية على المحك كما وأن الشواهد كلها تكاد تقطع بأنها لن تخرج من الحرب محققة أهدافها السياسية منها.
• • •
ثمة توصيفات متعددة، متداخلة وغير متطابقة لجبهتى الصراع، تبعد أو تقترب من الصحة بنسبة أو بأخرى، ولكن التوصيف الحقيقى لما يحياه العالم فى الفترة الرمادية الحالية والسابقة على إعادة صياغة نظام دولى جديد، هى المجابهة بين قوى الديمقراطية وقوى الاستبداد.
علينا إذن أن نعيد قراءة مقولات فوكوياما وهننجتون ونحن مستبعدون لحمولات الرؤية الانطباعية والانفعالية المتأثرة بإرث العلاقات الدولية لدولنا مع الغرب والشرق، لنتبصر بحكمة، وبمنهجية نقدية، وبقراءة صحيحة للتاريخ، مقولات الرجلين، والتى لا يوجد بينها تعارض جوهرى إذ لا تناقض بين أن تكون الديمقراطية هى أفضل نموذج انتجه الفكر السياسى للحكم وأنها نهاية التاريخ على نحو ما قال به فوكوياما فى كتابه عام 1989م وبين أن تكون صراعات ما بعد الحرب الباردة هى صراعات ثقافات وحضارات على نحو ما قال به هنتنجتون فى كتابه عن صدام الحضارات عام 1996م. فالغزو الروسى لأوكرانيا هو فى حقيقته منازلة بين ثقافات الاستبداد والديمقراطية، وهو ما يشكل صراع ثقافات وإن تحدد نطاقه بدول إقليمية بعينها وإن برر الغزو بدعاوى أمنية واستراتيجية. ولسوف نجد فى النهاية أن الديمقراطية كأسلوب حياة، وكنظام حكم، بغض النظر عن تباين تطبيقاتها، هى بالفعل نهاية التطور الإنسانى لنظم الحكومات، شريطة صدق القصد والتوجه وصحة الممارسة وشريطة توافر مقومات البنى التحتية لها فى المجتمعات المختلفة ودعمها. فالديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية والفردانية والمساواة أمام القانون وسيادة الشعب ورقابته تشكل بالفعل نهاية لتطور أنظمة الحكم بما يؤهلها لتصبح لحنا ختاميا للتاريخ الإنسانى. وهى نهاية للتاريخ ليس بمعنى انسداد مساراته ولا جمود تفاعلاته ولا توقف أحداثه، وإنما بمعنى أنها لا محالة نهاية لتطور نظم الحكم بحيث يصبح أى نظام غيرها خارج مسار التاريخ.
ورغم كل ما يمكن أن يؤخذ على بعض تجارب الديمقراطية وما يمكن أن يوجه لها من نقد للفاشيين المؤدلجين وعلى رأسهم قوى الأصوليات الدينية المختلفة وغيرهم من منظرى الاستبداد، وكذلك رغم ما يمكن أن يوجه من نقد للرأسمالية المتوحشة والتى لا تعد قرينا حتميا للديمقراطية السياسية ولا مرحلة لابد منها لبلوغها، فإنها ــ أى الديمقراطية ــ هى النظام الوحيد لأنسنة العلاقات السياسية داخل الدولة لعلاقات الأمر والطاعة بين الحكام والمحكومين، ولعدالة العلاقات الدولية داخل الكوكب بين الدول ذاتها فى تبادلها للمنافع وفق قانون المصالح وتجنبها للحرب كمنهج غير مشروع لتسوية نزاعاتها فى إطار علاقات الصداقة والعداوة والتحالف والنفور.
وفى هذا الإطار ووفق ذلك التوصيف ينبغى أن تقرأ الحرب فى أوكرانيا.
• • •
ولذلك فإن إعادة صياغة النظام الدولى فيما بعد الحرب ينبغى أن يكون بمقرطة نظام الأمم المتحدة بإصلاحه، إلغاء لحق النقض، وتوسعة لمجلس الأمن، ووزنا للدول بمعايير تتطابق والواقع الدولى المركب فى حساب قوتها التصويتية بمجلس الأمن، ومساواة بينها فى حق التصويت بنظام الصوت الواحد فى الجمعية العامة، ومنحا لسلطة القرار الإلزامى للجمعية العامة فى حالات إخفاق مجلس الأمن فى اتخاذ قرار بشأن الأزمات المهدده للسلم والأمن الدوليين تحت قرار الاتحاد من أجل السلم بما يشكل تصويبا لنظام الأمم المتحدة يضمن ديقراطيتها ويرشد قراراتها.
وعلى الجانب الآخر فإن ميثاقا أمميا للديمقراطية ينبغى أن يصاغ ويعلن، لتنبثق منه آلية دائمة لمؤتمر دولى دورى يعتمد منهجية مراجعة النظراء، لدعم تجارب التحول الديمقراطى، وإشاعة ثقافة وسلوك الديمقراطية داخل الدولة وما هو أدنى منها من وحدات تنظيم سياسية وعلى مستويات التنظيم الدولى النوعى والإقليمى، تتولى مسئولية الدعوة إليه عواصم القرار الدولى وعواصم دول المراكز الجيوسياسية فى مختلف أقاليم الكوكب، وليكن بداية لعالم جديد يعتمد العقلانية والحكمة سبيلا لمواجهة مشكلات العالم المهددة لأمنه، وذلك بلجم التغير المناخى وحظر إزالة كل أنواع وأجيال أسلحة الدمار الشامل حتى فى ترسانات الدول القطبية، وصولا لعالم لن يكون بالتأكيد سلما محضا، ولكنه سيكون أكثر سلاما وأمانا وتحقيقا لمصالح الدول والشعوب مع بقاء صراعاتها تحت سقف لا يهدد الوجود الإنسانى ولا يعيق نموه ولا يجهض فرص رفاهيته بقدر ما يبذله كل إنسان من جهد وما تتخذه كل دولة من جهود تنميتها. وبحيث لا يتيح فرصة للإيديولوجيات والنوازع الإثنية وغيرها من فواعل التعصب لتأجيج الفتن وإشعال نيران الحروب.
ولا شك أن الخطأ لا يشرعن حقا حتى وإن تكرر ولم يلق من يصده، أو حيل بين رافضيه وجهود صده، أو تمت مقاومته ولم تفلح فى منعه أو إنهائه أو إزالة أثره.
فشرعية الحق لا تقوم إلا على الرضا فى كل الوحدات الإنسانية وعلى مختلف صُعد التنظيم. فالرضا الجمعى (بسن القانون وإبرام المعاهدات) هو من يقرر الحق فى حالته الاستاتيكية، والرضا التنظيمى (بإقرار السلطات والمنظمات المختصة) هو من يرتب نشأة الحق فى مواجهة الكافة، والرضا التبادلى (بقبول أطراف أى تصرف) هو من يسمح بنقل الحق أو إنقضائه أو زواله، وعلى ذلك فالرضا وحده هو أساس شرعنة الحقوق.
أما الخطأ فهو محض تغلب لا يستند إلا لقوة الفرض ولا حياة له إلا بها. ولذلك قيل بأن القوة لا تنشئ حقا. وهى، أى القوة، متى كانت مشروعة فى ذاتها ومنضبطة وملتزمة بقواعد عملها، يتوقف دورها عند حد حماية الحق لا إنشائه.
وعلى ذلك فالخطأ الشائع لا يولد حقا، ولا القوة بمنشئة له.
والقاعدتان السابقتان ليستا من مبادئ الأخلاق فحسب، ولكنهما من أصول القانون وفلسفته منذ عرفت الحضارة فكرة القانون.
وعلى ذلك فالحرب العدوانية غير المشروعة وفقا لميثاق الأمم المتحدة تشكل خرقا لقانون الأمم لا يجعلها خطأً فحسب بل خطيئة فى حق مجتمع الدول والسلم والأمن الدوليين، وتذهب بأى قيمة معنوية وبأى وزن سياسى لمن يجترحها، وهى لا تنشئ حقا بقوة الفرض والاحتلال، إذ يبقى الاحتلال عملا غير مشروع وإن طال مداه، وإن استوجبته من وجهة نظر المحتل دواعى أمنه وأمانه.

قاض مصرى سابق

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved