أوباما المنتظر

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الإثنين 1 يونيو 2009 - 5:38 م بتوقيت القاهرة

 أرأيت كيف أسرفنا على أنفسنا، حتى أوهمناها بأن زيارة أوباما جائزة كبرى لمصر، وأن خطابه معقد أمل الفلسطينيين والعرب والمسلمين أجمعين؟

(1)
حين قرأت وصفا لزيارة الرئيس الأمريكى إلى القاهرة بأنها «تاريخية» فى أكثر من مقال لبعض القيادات الإعلامية المصرية، لم أجد لذلك تفسيرا سوى أننا اعتدنا على أن نصف كل ما يصدر عن الرئاسة من أقوال وأفعال بأنه تاريخى.

لكنى لم أتوقع أن تكون عباءة التاريخ عندنا فضفاضة إلى الدرجة التى تستوعب ما يصدر عن أى رئيس آخر يمر بمجالنا الجوى.

ولم تكن تلك هى المبالغة الوحيدة، لأن سيل الكتابات التى تناولت الرحلة «المقدسة» أسرف فى التباهى باستقباله، وفى الحفاوة به والآمال المعقودة عليه، على نحو أعطى انطباعا بأن الرجل جاء «مخلِّصا» يحمل مفاتيح الفرج، وأنه ليس مجرد زائر كبير المقام.

لكن ما كان مثيرا للرثاء والسخرية هو الكتابات التى علقت على إعلانه الأول بأنه سيخاطب العالم العربى والإسلامى من القاهرة، وتلك التى ظهرت بعد التصريحات التى تحدثت عن أنه سوف يزور المملكة السعودية أولا، قبل قدومه إلى مصر.

إذ فى أعقاب الإعلان الأول انطلقت بعض الأبواق معددة مناقب النظام القائم فى مصر التى جذبت الرئيس الأمريكى إليها، وجعلته يختارها دون غيرها منبرا لمخاطبة العالم العربى والإسلامى، ولم يفت تلك الأبواق أن تعتبر الزيارة الميمونة ردا مفحما على القائلين بتراجع الدور المصرى.

وشهادة تثبت أن «أم الدنيا» مازالت على فتوتها وعافيتها، وعند حسن ظن الآخرين بها. وهى اللهجة التى خفت نبرتها حينما أعلن أن الرئيس الأمريكى سيزور الرياض أولا، وظهرت الكتابات السعودية التى امتدحت قدومه إلى «المنبع الأول للحضارة الإسلامية»، وتحدثت عن «الانطلاقة العظيمة للعلاقة بين أوباما والملك عبدالله» (الحياة ـ 31/5).

وقرأنا على الصفحة الأولى لجريدة الشرق الأوسط (عدد 28/5) أن الرجل قرر زيارة الرياض «تعبيرا عن عمق العلاقات الاستراتيجية مع المملكة، وتقديرا لدور الملك عبدالله فى إطلاق مبادرة السلام».

و..«بسبب وزن السعودية ودورها فى كل الملفات التى تهم أمريكا والمنطقة (ذلك أن) القضايا المعقدة والشائكة تستلزم تبادل وجهات النظر مع السعودية. وفيما خص تحركات أمريكا نحو السلام أو نحو إيران كان لابد أن يكون هناك تنسيق أمريكى سعودى مصرى».

لست فى صدد استعراض النصوص التى نشرت فى مصر والسعودية بهذه المناسبة، لكننى أشير بسرعة إلى أن مضمونها جدير بالتحليل، لأنها فى مجموعها شهادة علينا وليست لنا. إذ هى تكشف عن رغبة ملحة فى تضخيم الذات، وشعور بعدم الثقة فى النفس، والتعلق بأمل «المخلِّص» الذى يأتينا من وراء الحجب لكى ينصف المظلومين ويرفع البلاء عن المغبونين والمكروبين.

(2)
الكلام كثير عن أهداف زيارة الرياض والقاهرة، التى خصص لها 17 ساعة، 9 منها فى العاصمة السعودية وثمانى ساعات فى مصر. وقصر الوقت المخصص للبلدين دال على أن الرجل قادم لا لكى يجرى محادثات، ولكن لأن عنده ما يقوله وما يريد أن يعلنه على العالم العربى والإسلامى.

وحسب معلوماتى فإن زيارته لها ثلاثة محاور أساسية هى: تعزيز فكرة المصالحة مع العالم الإسلامى التى عبر عنها فى أكثر من مناسبة لإنقاذ سمعة الولايات المتحدة وتحسين صورتها ــ طرح أفكاره الخاصة بدفع مسيرة السلام بين العرب وإسرائيل ــ مناقشة المدى الذى يمكن أن يقدمه العرب إسهاما فى استقرار العراق، وحل مشكلة الموقف المتدهور فى أفغانستان وباكستان، وفى التعامل مع البرنامج النووى الإيرانى.

الرائج حتى الآن أن الأفكار التى جاء بها تشمل ما يلى:
ــ الدعوة إلى تفعيل المبادرة العربية و«تطويرها». والمقصود توسيع نطاقها بحيث تصبح عربية وإسلامية، وفى الوقت ذاته إعادة صياغة موقفها فى حق العودة، بحيث يصبح المراد به العودة إلى الدولة الفلسطينية التى يفترض قيامها، وليس إلى المدن والقرى التى أخرج منها الفلسطينيون فى عام 1948. مع تقديم التعويضات المناسبة للذين يؤثرون الاستيطان فى الأقطار العربية التى لجأوا إليها.

ــ إعلان التمسك بحل الدولتين الفلسطينية إلى جانب الإسرائيلية، والتسريبات تتحدد عن سقف زمنى لإقامة الدولة الفلسطينية المرجوة يتحدد بنهاية الولاية الأولى للرئيس أوباما (فى سنة 2013).

ــ الدعوة إلى وقف الاستيطان بجميع أشكاله فى الضفة الغربية.
ــ مطالبة الفلسطينيين بالتهدئة وإنهاء المصالحة، فيما بينهم، لاستئناف مفاوضات التسوية السلمية مع إسرائيل.

ــ الاستعانة بالجهد السعودى فى وقف التدهور فى أفغانستان وباكستان، باعتبار أن المملكة تحتفظ بجسور تسمح لها ببذل جهد فى هذه الساحة، خصوصا فى الجانب الباكستانى.

ــ شرح موقف واشنطن فى اتصالاتها الجارية مع إيران.

(3)
المعلومات المتوافرة تشير إلى أن الأفكار الأمريكية مقبولة من جانب السلطة الفلسطينية ودول «الاعتدال» العربى، لكنها غير مقبولة من جانب الحكومة الإسرائيلية الحالية.

إن شئت فقل إن المجنى عليه يبدو راضخا ومتساهلا بينما الجانى هو المتعنت والمتعالى. إذ لم يعد سرا أن السلطة الفلسطينية قبلت منذ وقت مبكر (مفاوضات ياسر عبدربه وبيلين) بإسقاط حق العودة مقابل التعويض والتوطين (للعلم حين حاولت السلطة تسويق المبادرة العربية ونشرت إعلانات عنها فى الصحف الإسرائيلية.

فإنها حذفت منها النص على حق عودة اللاجئين)، كما أنها قبلت بمبدأ تبادل الأراضى، بمعنى أنها لم تعد متمسكة باستعادة ذات الأراضى التى تم احتلالها فى سنة 67، ولكنها أعلنت عن أنها لا تمانع فى أن تقيم الدولة على مساحة تعادل الأراضى التى تم احتلالها بصرف النظر عن موقعها.

أما فيما يخص القدس، فإن وزير الأوقاف فى حكومة السلطة أعلن قبول فكرة وضع المسجد الأقصى تحت إشراف منظمة المؤتمر الإسلامى (تدويله) بما يعنى أن تظل السلطة الفعلية لإسرائيل.

العقبة تبدو فى الموقف الإسرائيلى. أولا لأن نتنياهو له منظور مغاير يعتبر أن الأولوية يجب أن تمنح للملف الإيرانى وليس الفلسطينى، ومشكلة الشرق الأوسط فى رأيه لم تعد ممثلة فى الصراع العربى الإسرائيلى، وإنما صارت صراعا بين المعتدلين (إسرائيل وبعض الدول العربية) والمتطرفين الذين يصطفون مع إيران ويؤيدون المقاومة، وفى الوقت الذى تتمسك فيه الحكومة الراهنة بيهودية الدولة وتهويد القدس.

فإنها ترفض فكرة الدولتين وتعارض وقف الاستيطان، وقد أعلن رئيسها أمام الكنيست أن السلام يمكن أن يتحقق من خلال ثلاثة مداخل، أولها تقدم التطبيع مع الدول العربية، وثانيها إقامة مشروعات اقتصادية فى الضفة مع السلطة الفلسطينية، وثالثها دفع العملية السياسية مع الفلسطينيين.

أى إن ما يعرضه نتنياهو لا يتجاوز المطالبة بتطبيع العلاقات مع الدول العربية مع إقامة حكم ذاتى يسعى إلى إنعاش الاقتصاد الفلسطينى. وهو يعتبر ذلك «تنازلا» من جانبه للفلسطينيين والعرب، و«فرصة سانحة» يتعين عليهم امتثالها.

هذه المواقف تتعارض مع رؤية أوباما ومقترحاته، على نحو يفتح الباب لاحتمال الصدام بين الطرفين الأمريكى والإسرائيلى. ورغم أن نتنياهو فى كتابه «مكان تحت الشمس» ارتأى أن إسرائيل الصغيرة تستطيع أن تتحدى أمريكا الكبيرة، إلا أننا لسنا بصدد موقف من هذا القبيل، وإن بدا فى ظاهره كذلك.

إذ لا يشك أحد فى أن الولايات المتحدة لها نفوذها القوى فى الساحة السياسية الإسرائيلية الذى يمكنها من إسقاط حكومة نتنياهو (بإشارة مثلا إلى إيهود باراك رئيس حزب العمل تحثه على الاستقالة مثلا تؤدى إلى عودة حزب كاديما بزعامة تسيبى ليفنى إلى الواجهة مرة أخرى).

وفى الوقت ذاته فإن أحدا لا يشك فى أن إسرائيل لايزال لها نفوذها القوى فى الولايات المتحدة الذى يمكنها من التأثير على القرار السياسى هناك.

ولا تفوتنا هنا ملاحظة أن مبدأ الدولة الفلسطينية، الذى يبدو مثار خلاف الآن، قبل به رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، وقبله أرييل شارون، كما حدد الرئيس بوش موعدا للوفاء به فى نهاية ولايته، ولكن لم يتحقق شىء من ذلك الوعد، ولم تقم للدولة ولا للسلام قائمة. وما حدث أن الاستيطان استمر وتهويد القدس تسارعت خطاه، وشنت إسرائيل حربين فى لبنان وغزة.

الملاحظة الأخرى التى يتعين الانتباه إليها أن الحديث الأمريكى عن الدولة الفلسطينية لايزال غامضا، بمعنى أنه لم يتحدث عن الأرض التى ستقام عليها الدولة الموعودة. لذلك ليس مستبعدا أن تظل آمالنا معلقة على الفكرة، ثم نكتشف فى النهاية أن التصور الأمريكى لتلك الدولة ليس بعيدا عن التصور الإسرائيلى، الذى ي حولها إلى «دولة بقايا» للفلسطينيين منقوصة السيادة والاستقلال فى غزة وعلى أجزاء مبعثرة فى الضفة موصولة ببعضها بواسطة جسور وأنفاق.

وهذه الفقرة الأخيرة ليست من عندى ولكنها للدكتور على الجرباوى أستاذ العلوم السياسية، مقتبسة من مقال له نشر فى 5/5، قبل أن يصبح وزيرا فى الحكومة الفلسطينية الأخيرة.

(4)
بعدما قامت حكومة نتنياهو بتعلية سقف المطالب والشروط الإسرائيلية، فأخشى ما أخشاه أن نواجه بضغوط أمريكية تطالب الطرفين بتقديم «تنازلات» متبادلة تؤدى مثلا إلى قبول الحكومة الإسرائيلية بحل الدولتين والموافقة على إزالة ما تسميه المستوطنات غير الشرعية وعلى استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين.

فى مقابل إسقاط حق العودة والبدء فى تطبيع العلاقات مع بقية الدول العربية. وفى هذه الحالة فإن حكومة نتنياهو ستعود إلى النقطة التى وقفت عندها حكومة أولمرت، فى حين أن العرب سيقطعون أكثر من نصف الطريق نحو التصفية المجانية للقضية الفلسطينية. ومن ثم يصبح التنازل الحقيقى مطلوبا من العرب وليس الفلسطينيين.

حينما تولى نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية فى عام ٩٦، وجاء متبنيا الآراء التى يعبر عنها الآن، انعقدت القمة العربية فى العام ذاته وهددت باتخاذ موقف حازم إزاء سياسته، لوحت فيه بتجميد العلاقات التى كانت قائمة وقتذاك مع الدولة العبرية.

ولم تستمر حكومته لأكثر من ثلاث سنوات، اضطرت بعدها لإجراء انتخابات مبكرة. لكن الوهن الذى أصاب الصف العربى فى الوقت الراهن أعطى انطباعا بأن هناك من هو على استعداد للتنازل هذه المرة، إلى الحد الذى يمكن أن يستجيب للضغوط الأمريكية المستجدة. وذلك هو المحظور الذى نحذر من الوقوع فيه.

ليست مشكلة الطرف العربى والفلسطينى أنه لا يملك أوراقا يواجه بها الضغط الأمريكى أو الصلف الإسرائيلى، ولكن مشكلته أنه لا يملك إرادة الصمود ورفض التنازلات، ويؤثر أن يغطى عجزه بانتظار ما يجود به أوباما أو غيره.

علما بأن الإدارة الأمريكية الجديدة بحاجة إلى العرب فى الوقت الراهن أكثر من حاجتها لإسرائيل. هى بحاجة إلى نفط العرب ودعمهم المالى ومساندتهم السياسية فى العراق وأفغانستان وباكستان، فى حين أن إسرائيل تظل عبئا على الولايات المتحدة، بسياستها التى أشاعت عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط، وبضغوطها التى تسعى إلى توريطها فى مواجهة مسلحة مع إيران.

إن العرب يستطيعون أن يتكئوا على عناصر القوة فى موقفهم ويرفضوا الابتزاز الإسرائيلى وتقديم أية تنازلات لها، فيما تعلق بالتطبيع أو حق العودة أو تبادل الأراضى أو التسويف فى مصير القدس المحتلة.

ولن يلومهم أحد إذا ما تمسكوا بموقف الرفض وامتنعوا عن استئناف المفاوضات وتقديم أية مبادرات، وطالبوا كل من يريد مصالحة العرب أن يخاطب الغاصب والمحتل، وليس الضحايا. ومشكلة هذا الموقف أنه يتطلب إرادة مستقلة وشجاعة.

وفى الزمن العربى هذا فإن الإرادة المستقلة أصبحت مما نسمع عنه ولا نراه، تماما كالغول والعنقاء والخل الوفى. ولأن الأمر كذلك، فينبغى ألا نستبعد أن تكون إسرائيل هى المستفيد الأول من رحلة أوباما ورؤيته، وأن يصبح الفلسطينيون والعرب هم الخاسر الأكبر.


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved