إعلامنا والمعايير الدولية

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 1 يونيو 2015 - 10:30 ص بتوقيت القاهرة

موقف الإعلام والمسئولين الحكوميين فى مصر من المعايير الدولية فى جميع المجالات موقف ملتبس للغاية. فمن ناحية هم يرحبون بهذه المعايير عندما تشيد، أو يتصورون أنها تشيد، بما تحققه الحكومة المصرية. هم يشيرون بفخر مثلا إلى تقارير صندوق النقد الدولى عن الإصلاحات الاقتصادية التى تنفذها الحكومة، أو يبرزون تصريحات مسئولين أمريكيين عن الدور الذى تقوم به الحكومة المصرية فى مكافحة الإرهاب، ولكن عندما يتعلق الأمر بتعليقات تتصل بأوضاع حقوق الإنسان أو أحكام القضاء فى مصر، فهم يبادرون باتهام هؤلاء المسئولين بأن معلوماتهم مغلوطة، وأنهم لا يفهمون مصر، أو أنهم مدفوعون من جهات معادية لمصر مثل حكومتى قطر وتركيا، أو أنصار الإخوان المسلمين الموجودين فى هذه الدول. وسرعان ما تصدر وزارة الخارجية، وعلى لسان المتحدث باسمها، بيانا يدعو هؤلاء إلى احترام السيادة المصرية، وعدم التدخل فى شئون مصر الداخلية.

ومصدر التعجب أن هؤلاء المسئولين الأجانب يصدرون فى مواقفهم عن افتراض أن المعايير التى يشيرون إليها هى معايير قبلتها الحكومة المصرية فى معاهدات تم التوقيع عليها من جانب المسئولين المصريين أنفسهم، وصدقت عليها السلطة التشريعية فى مصر، ومن ثم فهم لا يلزمون مصر باحترام تعهدات لم تقبلها مقدما، بل والأكثر من ذلك أن مصر تقبل المساءلة عن تنفيذها لهذه التعهدات، وإلا لماذا قبلت الحكومة المصرية المشاركة فى اجتماعات مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وما هو فحوى ما جرى فى اجتماعاته من مناقشات، ألم تتعلق ملاحظات الوفود التى حضرت اجتماعه الأخير فى جنيف بأوضاع حقوق الإنسان فى مصر، أو لم يهلل إعلامنا لقبول المجلس تقرير مصر، وأوهم قراءه والمستمعين والمشاهدين له أن قبول التقرير يعنى تسليم المجلس بأن أوضاع حقوق الإنسان فى مصر هى على خير مايرام، بينما تضمن التقرير إقرار الحكومة المصرية ببعض ملاحظات الدول، وإجاباتها غير المقنعة بأن النصوص الدستورية والقانونية فى مصر تضمن احترام هذه الحقوق بينما يعلم الجميع بالبون الشاسع بين هذه النصوص وواقع الأحوال فى مصر، وتضمن التقرير كذلك رفض الحكومة المصرية لملاحظات أخرى، دون أن يعنى ذلك فى حد ذاته أن هذه الملاحظات بغير أساس.

وليس النقاش حول هذه المسائل فى مصر شأنا أكاديميا أو نظريا بحتا، فهو يتعلق بشدة بسياستنا الخارجية وموقفنا من الدول التى صدرت فيها مثل هذه التصريحات. فقد أعلن رئيس أحد مجلسى البرلمان الألمانى عزوفه عن استقبال الرئيس السيسى عند زيارته المقبلة لألمانيا، وكرر وزير الخارجية والسفير الألمانى فى القاهرة تصريحات مشابهة، وطالب بعض الكتاب الرئيس بعدم الذهاب إلى ألمانيا، وهى أقوى الدول اقتصادا ونفوذا فى القارة الأوروبية. ومثل هذه الدعوات تفتح الباب أمام سؤال خطير، هل نقاطع المجتمع الدولى إذا كانت مثل هذه التصريحات تجد صدى مؤيدا فى دوائر أخرى، أم أن هذه التصريحات تكشف عن أوضاع لدينا تستحق المراجعة بل والتصويب.

•••

ولذلك علينا أن نحدد موقفنا بوضوح هل تقبل الحكومة والمجتمع فى مصر بهذه التعهدات، أم أنهما قررا نفض أياديهما منها والعمل وفقا لقواعد ومعايير أخرى؟، وماهى هذه القواعد والمعايير البديلة حتى نوفر على نفسنا جهد مطالبة الحكومة بما هى ليست على استعداد بداية لكى تلتزم به. وسيناقش هذا المقال بعض هذه التعهدات التى أثارت الغضب من جانب إعلامنا عندما تناولها بعض المسئولين الأجانب وبعض الصحف الدولية.

ولنبدأ بمسألة المحاكمة العادلة التى اتهم بعض المسئولين الألمان وصحف دولية مؤثرة الحكومة المصرية بتجاهلها. المادة الرابعة عشرة من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية والتى صدقت عليها الحكومة المصرية فى 14 يناير 1982 وتعتبر منذ تاريخ نشرها فى الجريدة الرسمية بعد التصديق عليها بشهور نافذة فى مصر كأى قانون داخلى، هذه المادة تنص بين أمور أخرى على أن من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئا إلى أن يثبت عليه الجرم قانونا، وتضيف المادة الثالثة أن لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر فى قضيته وعلى قدم المساواة التامة بعدد من الضمانات منها مثلا أن يناقش شهود الاتهام بنفسه أو من قبل غيره، وأن يحصل على الموافقة على استدعاء شهود النفى بذات الشروط المطبقة فى حالة شهود الاتهام.

هل طبقت هذه القواعد على قدم المساواة فى محاكمات المسئولين السابقين سواء الذين تولوا مناصب فى الحكومة قبل ثورة يناير 2011 أو قيادات الإخوان المسلمين.؟ لقد أتيح للرئيس الأسبق حسنى مبارك أن يستدعى محاموه شهود النفى ومن بينهم رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس المخابرات فى عهده ومسئولون آخرون. فهل أتيح ذلك أيضا لمن صدرت أخيرا أحكام بإعدامهم فى قضية الهرب من السجون واقتحامها، وهل تعامل القضاء وأجهزة الأمن معهم على قدم المساواة، وهل سمح لهم باستدعاء شهود النفى أم أن المعاملة الكريمة توافرت لمسئولى عصر مبارك، وكانت المعاملة المغايرة من نصيب الآخرين. ليست المسألة هنا هى موقف الكاتب الشخصى من الأولين والآخرين، فقد كان معارضا فى الحالتين، ولكنها مسألة الالتزام بتعهدات على الحكومة المصرية احترامها، وهذا هو ما يتوقعه منها هؤلاء المسئولون الأجانب الذين أدلوا بتصريحات رفضها إعلامنا والمتحدث باسم وزارة الخارجية.

•••

لن أضيف كثيرا فى هذا المجال لأن قضاءنا فى مصر أدخل هذه القاعدة التى لا أجد لها مثيلا فى أى دولة ديمقراطية وهى اعتبار أن التعليق على حكم قضائى هو بمثابة إهانة للقضاء، على حين أن ذلك ممارسة للحق فى حرية التعبير. بل إن المطلوب فى أمور خطيرة مثل الحكم بالإعدام على المئات من المواطنين من واجب القضاء أن يعرف بتساؤلات المواطنين، وأن يعين مسئولا يختص الرد على هذه الاستفسارات، فهذا هو الذى يضمن التفاف المواطنين حول قضائهم واستمرار تأييدهم له.

طبعا ضمان توافر المحاكمة العادلة يجب أن يكون الوضع الأساسى فى كل القضايا أيا كان الشخص المحال إلى القضاء وأيا كانت تهمته، وهو أشد وجوبا عندما يكون مطلب الادعاء هو الحكم بالإعدام على الشخص المتهم، وعندما يصدر الحكم حتى ولو كان أوليا بالإحالة إلى المفتى الذى يسلم فى أغلب الحالات بما يرتأيه القضاء، وعندما تمتد أحكام الإعدام هذه لتتجاوز فى شهور قليلة كل أحكام الإعدام التى صدرت فى عهد كل الرؤساء السابقين بل وربما فى كل تاريخ القضاء المصرى الحديث. ولعلنا ندرك فى هذا الخصوص أن نفس العهد الدولى سلم ببقاء هذه العقوبة فى حالة أشد الجرائم خطورة، وتميل المنظمات الحقوقية إلى المطالبة بإلغاء هذه العقوبة، أو استبعاد تطبيقها فى القضايا السياسية. فهل ينطبق تعبير أشد الجرائم خطورة على من قيل إنه هرب من السجن، وهو نفسه لم يكن مسجونا يقضى فترة الحكم عليه، ولكنه كان محتجزا بدعوى حالة الطوارئ. وترددت أقوال كثيرة حول ظروف خروجه من السجن.

أما فيما يتعلق بمعاملة السجناء، فهناك معايير دولية أيضا منها ما سمى القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء التى اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة الأول لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المعقود فى جنيف عام 1955 وأقرها المجلس الاقتصادى والاجتماعى بقراريه 663 فى 31 يوليو 1957 و2076 فى 13 مايو 1977. والمبدأ الأساسى فى هذه القواعد، كما جاء فى المادة 5 أنها تطبق بصورة حيادية، ولا «يجوز أن يكون هناك تمييز فى المعاملة بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين، أو الرأى سياسيا أو غير سياسى، أو المنشأ القومى أو الاجتماعى أو الثروة أو المولد أو أى وضع آخر». أشير فقط إلى مادتين فى هذه القواعد، المادة 32ــ1 التى تنص على أنه « لايجوز فى أى حين أن يعاقب السجين بالحبس المنفرد» والمادة 37 التى تقضى بأنه «يسمح للسجين، فى ظل الرقابة الضرورية بالاتصال بأسرته وبذوى السمعة الحسنة من أصدقائه، على فترات منتظمة، بالمراسلة وبتلقى الزيارات على السواء».

هل طبقت هذه القواعد على قدم المساواة. كنا نقرأ فى الصحف عن زيارة السيدة سوزان مبارك لزوجها وابنيهما فى سجن طرة، وهذا حقها وحقهم تماما، وقرأنا فى الصحف أن الدكتور محمد مرسى لم يسمح له بأى زيارة منذ حبسه فى يونيو 2013.

•••

لم أتعرض هنا لقواعد أخرى مثل وجوب توجيه الاتهام أو إجراء المحاكمة فى وقت قصير بعد الاحتجاز، أو ضرورة المعاملة الكريمة للمسجونين، أو حتى شروط ألا يتجاوز عدد المسجونين اثنين فى زنزانة واحدة. ولكن كل هذه أمثلة لقواعد ارتضاها المجتمع الدولى وقبلتها حكومتنا. فهل نقبل الوفاء بتعهداتنا بإعمال هذه القواعد أم أننا نرفضها ونريد التحلل منها؟ طبعا أعرف الجواب المعهود على هذه الأسئلة وهى أن الإخوان المسلمين وأنصارهم وشباب الثورة وحتى الكثيرون من المواطنين العاديين المحتجزين منذ شهور بلا ذنب جنوه هم كلهم حالات خاصة لا تنطبق عليها هذه المعايير. قيمة هذا المقال هى على الأقل أنه يوضح لماذا تأتى هذه الانتقادات من خارج مصر لما يحدث فى مصر. وقد يكون مفيدا لو قررت حكومتنا يوما أن تتجاوب مع روح العصر فى مجال حقوق الإنسان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved