تسوية فى فلسطين.. أم تصفية.. أم وعد لن ينفذ؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 2 يونيو 2016 - 3:35 م بتوقيت القاهرة

عاد الصخب الإعلامى والسياسى يثير التكهنات حول نوايا أطراف القضية الفلسطينية فى الشهور المقبلة. عاد الصخب فجأة بعد سنوات من الصمت والهدوء وكثير منهما كان متعمدا، وربما ضروريا للتركيز على إثارة أو تهدئة بؤر أخرى فى المنطقة.
عاد فجأة ليس كما قيل لأن فرنسا دعت إلى مؤتمر مبهم ومائع يعقد فى باريس ولكن لأن الرئيس المصرى خرج عن صمت وتعتيم التزمهما منذ تولى مسئولية الحكم ليدلى بتصريح خارج السياق ومن خارج العاصمة.

لا تخرج «المبادرة» الفرنسية عن كونها دعوة لمؤتمر دولى يعقد فى فرنسا يحرك عملية التسوية الراكدة، بدون أى إشارة لمضمون تسوية جديدة أو أفكار طازجة أو تغير جذرى فى موازين القوة. بمعنى آخر لا جديد فى «المبادرة الفرنسية» سوى الرغبة ربما فى الحصول على اعتراف دولى وداخلى بأن الدبلوماسية الفرنسية ما زالت تنبض، حتى لو كشف نبضها الضعيف عن نفوذ متردى وفقر فى الأداء وصعوبة فى احتلال أو استرداد موقع فى القمة الدولية.

«المبادرة» المصرية كذلك، كلمات أطلقها الرئيس السيسى فى خطاب له بأسيوط يجدد بها أمام الآخرين استعداد مصر التدخل لتسهيل الجهود الهادفة لاستئناف المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. يرى محللون أن مجموع كلمات الرئيس المصرى لا يشكل «مبادرة مفيدة» أو إضافة حيوية فى سجلات القضية ولكن فى ظنى أنها كانت أكثر من كلمات ويجب أن ننظر اليها بعين الجد والاعتبار لأسباب ليس أقلها شأنا انها صدرت عن رئيس رفض أن يأتى على ذكر إسرائيل بكلمة رضا أو غضب على امتداد مدته فى الحكم رغم بشاعة ما ارتكبته إسرائيل، وترتكبه من جرائم وحشية. أستطيع أن افهم منطق المدافعين عن هذا الصمت الطويل، فالرجل ونظامه يريدان العودة بمصر إلى وضع كانت تبدو فيه مستقرة فى الداخل ومرتاحة فى الخارج وإن متآكلة الثروة والنفوذ والدور. أتصور أن وراء اهتمام المحللين بكلمات الرئيس المصرى ما هو أكثر من أنه نطق باسم إسرائيل فى خطاب جماهيرى فى مدينة بعيدة عن القاهرة، بؤرة النشاط الإعلامى.
***
جاء فى خطاب الرئيس كلام عن البناء فوق المبادرة العربية التى أقرتها قمة بيروت فى عام ٢٠٠٢، هذه المبادرة التى اطلقتها المملكة العربية السعودية، وأثارت ضجة فى رأى عربى عام ظن أنها الخطوة الأولى فى إعلان المملكة ودول الخليج استعدادها المشاركة الايجابية فى تسوية القضية الفلسطينية والتلميح إلى امكان الاعتراف بإسرائيل. الحقيقة ان المملكة سبق أن طرحت فى أحد مؤتمرات القمة العربية مبادرة كان قد أطلقها الملك فهد من ست نقاط، وكان هدفها فى ذلك الحين طمأنة الولايات المتحدة إلى أن الموقف العربى من مقاطعة كامب ديفيد ومبادرة السلام المصرية لن يستمر طويلا. حدث هذا فى مطلع عقد الثمانينات، أى قبل قمة بيروت، قمة المبادرة السعودية، بعشرين عاما. وقتها انقسمت القمة العربية إذ طرحت مبادرة السلام السعودية، ولم يكن قد مضى على وقف عضوية مصر فى الجامعة العربية أكثر من ثلاثة أعوام.
إن إشارة الرئيس المصرى فى خطابه بصعيد مصر إلى المبادرة السعودية التى أقرتها قمة بيروت قبل أربعة عشر عاما لا بد أن تجعل المحللين يربطون بين مبادرته وبين تحركات سعودية تسرب بعضها ويتوصلون إلى اجتهاد مفاده أن مصر أرادت بكلمات أدلى بها رئيسها فى أسيوط أن تفرض المبادرة السعودية، ولا شىء غيرها، أساسا تقوم عليه جميع المبادرات المتوقعة فى المرحلة المقبلة، بما فيها «المبادرة» الفرنسية.
* * *
لماذا الآن، لماذا تحرك فجأة رئيس «الإليزيه» فى باريس، ولماذا تحرك علانية وفجأة رئيس «الاتحادية» فى القاهرة، لماذا نشطت فجأة الدبلوماسية السعودية فى اتجاه إسرائيل؟ لماذا تحركت فجأة عناصر فلسطينية أقامت طويلا فى المنفى فى انتظار لحظة بعينها؟ هل حانت اللحظة؟ هل توجد أى علاقة بين الصخب العالى فى إسرائيل حول «الانزلاق» نحو اليمين المتطرف وبين التطورات الإقليمية والدولية فى شأن القضية الفلسطينية، ألم تجرِ العادة على أن يكون اليمين مهيمنا فى السلطة عند اتخاذ قرارات مصيرية فى إسرائيل وفى المنطقة؟ إيران؟ كم هى بعيدة وقريبة فى آن واحد من تطورات تتعلق بمستقبل إسرائيل وتحالفاتها فى الشرق الأوسط؟. هل من نفوذ وضغوط من جانب أردوغان فى اتجاه بعينه خاصة وقد عاد متدفقا نشاطا وقوة ومتدخلا فى جميع المواقع؟
***
الإجابة عن هذا النوع من الأمثلة تبقى غالبا فى حيز التخمين والاجتهاد بسبب الضباب الكثيف الذى يخيم منذ مدة على جميع قصور الرئاسة ومراكز صنع القرار فى عواصم المنطقة كما فى عواصم غربية، وبسبب التخبط وضعف التنسيق، وهما من بين عديد النقائص التى اعترفت بها على سبيل المثال قيادات الاتحاد الأوروبى فى اجتماعاتها الأخيرة، وكذلك قيادات القمة الصناعية السبع فى اجتماعها هذا الأسبوع فى اليابان. لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن كلا النقيصتين صارتا علامة مميزة فى صنع القرار الجماعى الغربى كما فى القرار العربى، لا يبقى أمام المعلقين السياسيين سوى الاعتماد على قدراتهم التحليلية والمعلومات البسيطة المتوفرة لفهم جانب مما يدور، وطرح احتمالات أو سيناريوهات بعضها صار يضيف تعقيدات إلى وضع هو فى أساسه شديد التعقيد.
* * *
أستطيع وبإيجاز استخلاص اجتهادات من بين أهم ما طرحته بعض التعليقات السياسية العربية والأجنبية. أفعل هذا بدون تدخل متعمد من جانبى فى الرأى والتحليل، فالأمر بالنسبة لى ما زال يبدو شديد الغموض وفضلا عن أغلب تصرفات الأطراف تكتسى حساسيات مقلقة ومزعجة. كدنا من فرط المبالغة فى التعتيم على تحركات ونوايا الأطراف المباشرين نعتقد بأننا نقترب من تطور شبيه بمسلسل بدأ بزيارة الرئيس السادات للقدس، وانتهى باتفاقية كامب ديفيد.
***
خذ مثلا الرأى القائل فى الغرب وإسرائيل بأن التحركات الأخيرة للدبلوماسية الدفاعية والسياسية للملكة العربية السعودية تشير إلى أن قرارا ربما اتخذ بالفعل فى شأن احتمال عقد اتفاقية صلح أو معاهدة سلام أو بروتوكول صداقة وأمن متبادل أو أى صيغة أخرى تؤدى فى النهاية إلى إقامة علاقات دبلوماسية أو سياسية بين إسرائيل ودول الخليج ابتداء بالمملكة العربية السعودية أو انتهاء بها. يردد بعض أصحاب هذا الزعم بأن إصرار المملكة، وربما إسرائيل بالضغط أو المساومة على إنهاء مسألة الجزيرتين، تيران وصنافير، فى تكتم وسرعة، وقبل أن تحين ساعة التفاوض على مستقبل الأمن والسلام فى المنطقة، هذا الإصرار دليل مادى ومنطقى على أن وراء الصخب الحادث والاتصالات الجارية والمفاوضات والاتصالات السرية الجارية بين أطراف عديدة، أهدافا أخرى أكثر وأهم من هدف التوصل إلى تفاهمات فلسطينية ــ إسرائيلية محدودة بمباركة إقليمية ودولية.
****
أتحسس ميلا واضحا ومتزايدا لدى قيادات القوى الفاعلة إعلاميا ودبلوماسيا فى الشرق الأوسط لاعتبار أن إقامة علاقات دبلوماسية بين دول الخليج وإسرائيل صارت مسألة وقت لا أكثر. تحسست ميلا نحو اعتبار آخر، وهو أن القيادة السياسية المصرية ربما توصلت إلى أن السلام البارد القائم حاليا بين مصر وإسرائيل لا يمكن، ولا يجب، أن يدوم طويلا. هذا السلام البارد صار، فى نظر أحد المتخصصين الأجانب، مكلفا للطرفين فضلا عن أنه مهدد دائما بالاختراق طالما ظلت مساحة العلاقات العربية بإسرائيل محدودة بمصر والأردن وقطر، أو هكذا يردد أنصار التوسع فى العلاقات مع إسرائيل.
***
سمعت وقرأت بوضوح أحيانا وبغموض متعمد فى أحيان أخرى أن الدبلوماسية الأردنية تستعد بإجراءات دستورية داخلية وتعبئة دبلوماسية وشعبية لاحتمال ان «تستجيب» لطلب أو «ضغط» لإعادة دمج الضفة الغربية، تحت أى اسم، فى المملكة الأردنية. هناك فى الأردن كما فى خارجه، من يعتقد بأن الأردن قد احتل نتيجة تطورات الربيع العربى، وبخاصة غياب كل من العراق وسوريا، وظيفة «القلب» لأى نظام إقليمى يقوم فى المنطقة. نعرف أن سوريا «قلب النظام العربى» ومركز طاقته غائبة، وقد يطول غيابها، ونعرف أن العراق، الامتداد الطبيعى لطموحات هذا القلب نحو الشرق، غائب وغيابه ثقيل وعنيف. نعرف كذلك أن مصر، وهى الامتداد أو العمق الاستراتيجى والتاريخى لهذا القلب، تعيد ترتيب أسبقياتها بعد أن ارتبكت الأولويات وتداخلت مع أولويات قوى أخرى فى الإقليم وخارجه. أما وأن الأمور وصلت إلى هذا النحو فلن يبقى للأردن عمق استراتيجى له الاعتبار سوى نحو الجنوب فى المملكة السعودية ونحو الغرب فى إسرائيل.
* * *
لم يفت على كثير من المحللين مغزى الواقع المتغير فى إسرائيل، هناك حيث يضرب التوتر قطاعات مهمة فى النظام السياسى مع الميل الواضح فى المزاج العام نحو التطرف اليمينى فى السياسات والآن فى البناء الحزبى. هذا التوجه، رغم المعارضة البارزة من جانب اليسار والعلمانيين، يؤذن باحتمال أن تستقر النية الإسرائيلية على عملية «تدخل جراحى» فى العلاقة مع الفلسطينيين، بمعنى القبول بوضع يكون للفلسطينيين حق استخدام كلمة فلسطينية فى خرائطهم، بشرط ألا يأخذ هذا الكيان الفلسطينى شكل «الدولة كاملة الاستقلال». لا شك أن قرارا كهذا سوف يحتاج إلى مباركة اليمين المتطرف قبل طرحه للنقاش مع الفلسطينيين فى المفاوضات المباشرة، التى ستنظم انعقادها مصر مع فرنسا، استعدادا لعقد مؤتمر باريس أو نتيجة له.
***
يصل المحلل السياسى إلى نتائج خاطئة إذا بالغ فى قيمة ووزن أحد المتغيرا ت على حساب متغير آخر. تعلمنا أن التقدير الرشيد للأوزان النسبية للاعبين الأساسيين فى أى قضية دولية هو السبيل الضرورى للتوصل إلى نتائج واقعية أو أقوى قابلية للتحقق. فى ظل توازنات القوة الإقليمية الراهنة وضغط العنصر الإيرانى وتعقيدات الوضع المصرى وصعود اليمين الإسرائيلى واهتراء منظومة الأمن القومى «العربى» أخشى ما أخشاه ويخشاه أكثر الفلسطينيين أن يتكرر سيناريو التجربة الأولى فى الصلح مع إسرائيل. تحصل الأطراف الرئيسة على غاياتها، وهى إقامة علاقات كاملة أو جزئية وتحصل فلسطين على وعد لن تنفذه الأطراف المتصالحة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved