اعقلها وتوكل

صلاح ابو الفضل
صلاح ابو الفضل

آخر تحديث: الخميس 1 يونيو 2017 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

كلما ازدادت هجمات الإرهاب على وطننا الممتحن كلما تصاعدت وتيرة البحث عن روافد التطرف فى مناهج التعليم وفى الخطاب الدينى السائد فى الصحافة والإعلام، وحول الحاجة لإصلاح دينى يوقف تيار التطرف والإرهاب الذى امتد إلى قلب المجتمع مهددا سلامته ومستقبله. وإذا كان تطوير المناهج التعليمية أمرا واضحا لايحتاج إلا للهمة والتقدم نحو الجهد المطلوب فإن تطوير الخطاب الدينى يحتاج إلى تبصر وتمعن فى فحوى وكيفية التناول ومحتوى الخطاب وماذا نأخذ وماذا نترك من تراث دينى وإنسانى ضخم ومتنوع. بينما تتعقد المشكلة أكثر حين نتصدى للإصلاح الدينى وما يعنيه من التصدى للمفاهيم المغلوطة والتناقضات التى تفرضها تطورات العلم والحياة.
إن التفكير فى ماهية الخطاب الدينى المناسب لحاجة المجتمع يؤدى بالضرورة إلى تخوف البعض من تأثير ذلك فى دعوات الإصلاح الدينى لعلها تنال من أساسيات العقيدة، وهى مخاوف يذكيها مناخ مريض خلقته مزايدات المتاجرين بالدين الذين حولوا الدعوة السمحة للإسلام إلى ساحة قتال وصراع حول الدين وكأنه كيان مهدد متجاهلين أنه منتشر ومستقر فى أرجاء الدنيا. وقد أدت هذه النزعات إلى نكوص المفكرين والعلماء عن الاجتهاد والتجديد، وربما يفسر ذلك إحجام الأزهر عن الدخول فى معترك الإصلاح تحسبا لمزايدات المتاجرين بالدين وأصواتهم العالية وإرهابهم المتزايد.
كما أن المقابلة بين مفهومى الخطاب الدينى والإصلاح الدينى تساعد فى توضيح الفروق بينهما وتقسيم الأدوار بين الدعاة والمفكرين. فالخطاب الدينى يتصل بأمور الدعوة ويتعلق أساسا بالقضايا الاجتماعية والإنسانية التى يجدر برجال الدين والمثقفين ووسائل التعليم والاعلام تناولها من منظور دينى من أجل ترسيخ مبادئ ومفاهيم تساهم فى تقدم المجتمع والإنسان، وأهم هذه المبادئ أن الدين المعاملة، وأن العمل فوق العبادة، وأن المسئولية قبل التوكل على الله.
أما الإصلاح الدينى فيتعلق بقضايا العقيدة وأساليب تناول التراث الدينى والبحث فى القضايا الخلافية كقضايا التفسير والنحل والأحاديث الموضوعة، أو ظروف ومناسبات نزول الآيات القرآنية كشروط مهمة من شروط التفسير والقياس، والعلاقة بين الشريعة والقانون الوضعى. والإصلاح هنا يعنى التقدم بالعلوم الدينية على أسس عقلانية بحيث تلتقى مع علوم العصر وتطور الفكر الإنسانى فلا ينشأ تناقض بين الدين والعلم أو بين الدين وتطور المجتمع، ولو أدرك الأزهر مدى خطورة هذه القضية فى العصر الذى نعيشه لكانوا أول من يسعى للبحث فى الإصلاح الدينى.
***
إذا بدأنا بالخطاب الدينى فقد يعنى ذلك ببساطة أن ينتقل جمهور الدعاة فى المساجد، والكتاب فى الصحف والمجلات، والمؤلفون فى الأفلام والمسلسلات، والمدرسون فى المدارس والجامعات من التركيز على دعوات الإفراط فى العبادة التى تحول الدين إلى طقوس مهدئة إلى مناقشة نظرة الدين لقضايا العمل والتعامل فتوظفها كقوة ضابطة للسلوك دافعة للتقدم. ويعنى ذلك أن نترك الحديث عن الحجاب والنقاب ونواقض الوضوء، وهل نقط الأنف تفسد الصيام، وعن كيفية جمع ملايين الحسنات عن طريق قراءة قصار السور ثلاث مرات يوميا أو بعض الأدعية المسجوعة المموهة ببليغ الألفاظ ثم توزيعها على أكبر عدد من أصدقاء الواتس آب والفيس بوك ليزداد عدد الحسنات وقصور الجنة، وأن ننتقل إلى الحديث عن قيمة العمل ومسئولية الإنسان عن أفعاله. فليس من المعقول أن نفرغ مفاهيم العبادة والدعاء من مضامينها التى تشرح الصدور وتحض على العمل الصالح بتحويلها إلى رقى تتكرر بهدف جمع آلاف الحسنات، بينما أنماط السلوك الضارة تتفشى فى المجتمع. والأولى بنا أن نتذكر الحديث المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذى كان يعمل ليطعم أخيه المقيم فى المسجد يتعبدطول وقته فقال (أخوه أعبد منه) وفى حديث آخر قوله للصحابة فى مقابل صحابى مكثر للعبادة (أنتم خير منه). ونحن فى رمضان أحوج ما نكون بتذكير الناس بهذا التوجيه النبوى لقيمة العمل فى مقابل قيمة العبادة ليتسنى لنا التوازن اللازم لنمو المجتمع ونهضة الإنسان.
أليس أفضل للمسلمين أن نذكرهم بأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه بدلا من تكرار أدعية مصنوعة مئات المرات دون عمل مفيد؟ ألا يحض ذلك عاملا أمام مزلقان أن ينتبه لعمله فلا يصطدم قطاران أو سائق لسيارة فلا ينحرف بها فيقتل العشرات أو طاهى فى مطعم فيحرص على نظافة يده وطعامه فلا يضر الطاعمين؟ أليست هذه من أخلاق الإسلام؟ أليست أفضل وأعبد من تكرار الأدعية دون تفكير؟ إن دعاتنا مطالبون فى رمضان بتذكير الناس بأن إتقان العمل عبادة وأن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن التسول حرام والاستجداء حرام والرشوة حرام.
نحن بحاجة لمجابهة ثقافة التواكل الضاربة فى حنايا العقل المصرى المعاصر، ليس بتحويل النصوص الدينية إلى رقى سحرية، ولكن باستنباط روح المسئولية والالتزام، وهو ما يدعونا لتذكر الواقعة الشهيرة حين دخل أعرابى على الرسول الكريم يختبره سائلا: «تركت ناقتى بالباب فهل أعقلها أم أتوكل على الله؟»، فقال عليه الصلاة والسلام: (اعقلها وتوكل) محددا بذلك ثقافة الإسلام الحقيقية التى تربط التوكل على الله بالمسئولية عن الفعل. بهذا يكون الخطاب الدينى قوة دافعة للمجتمع إلى الأمام لا وسيلة للتراخى والتواكل والكسل وجمع الحسنات بالدعوات.
إن الخطاب الدينى يجب أن يكشف زيف المتاجرين بالدين أصحاب الفتاوى الجنسية والأكروبات الفقهية التى تضيع وقت الناس وعقولهم وتصرفهم عن العمل الجاد والتفكير المثمر. وإذا تقدم هذا الخطاب أكثر فلعله يكشف زيف المتكبرين على الناس ممن يساوون أنفسهم بالإسلام ويكفرون من يختلف معهم.
***
أما الإصلاح الدينى فما زال مجتمعنا يصارع مخاضه منذ أيام محمد عبده مرورا بموقعة طه حسين والشعر الجاهلى وعلى عبدالرازق وكتاب الإسلام وأصول الحكم حتى فرج فودة ونصر أبو زيد وهى المعارك التى تمحورت حول الفكاك من تصورات الأقدمين الجامدة وتفاسيرهم التى ارتبطت بعصورهم ولم تعد تصلح للعصور التالية. وأهم القضايا التى ما زالت تنتظر استجابة السلطة الدينية لإلحاحها هى تنقية التراث من الأحاديث الموضوعة وإعمال العقل فى النقل، ثم الأخذ فى تفسير القرآن بمناسبات نزول النص كمدخل للنظر فى النصوص الدينية فيما وراء اللغويات إلى الفلسفة والتاريخ، وصولا بالنص القرآنى إلى آفاق رحبة غير مسبوقة.
إذا كانت المسئولية الأولى فى قضية الخطاب الدينى تقع على الدولة بمؤسساتها، فإن معضلة الإصلاح الدينى تقع على الأزهر، لكنها تحتاج صبرا وهدوءا وحكمة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved