«كرنتينا» فلوبير.. لوكليزيو وبروست

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 1 يونيو 2020 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة «جودى الأسمر»، تتحدث فيه عن تأثير الحجر المنزلى فى الأدب وكيف أنه مجال للإبداع...جاء فيه ما يلى.
تزدحم المَنابِر الافتراضيّة مؤخّرا بمُراجعاتٍ عن آداب الوباء، يُحاول قرّاؤها الاستئناس بأحداثها والتماهى مع شخوصها، لتأتيهم بنبوءاتٍ تُزاوِج بين الخيال والواقع، علّها تُساعدهم على مُغالَبة مجهولٍ يترقّبونه فى حَجْرهم المنزلى وعزلتهم الوبائيّة المُسمّاة «الكرنتينا».
ويُلاحِظ المُتابعون أنّ رواية «الطاعون» لألبير كامو تتصدّر أدب الجوائح التى تُعاد قراءتها. إلّا أنّ الكرنتينا وفّرت للعديد من أدباء فرنسا الإطار المَكانيّ المُحفِّز لولادة مؤلّفاتهم. من هذه الآداب، نتناول رسالة غوستاف فلوبير من كرنتينا بيروت، ومُقارَنة سريعة مع «الكرنتينا» للكاتِب المُعاصِر جان مارى لوكليزيو، انتهاءً بمطوّلة مارسيل بروست الشهيرة «بحثا عن الزّمن المفقود»، فى ضوء نظريّات فى السوسيولوجيا والتحليل النفسى.
اختيار هذه الأعمال الثلاثة، ينطلق من ملاحظة تأثير الكرنتينا فى الأدب، بتجاوزه الحيِّز الموضوعاتى؛ بل يُضاف إلى «أدب الجوائح» ما سنُسمّيه «الأدب فى الجوائح»، حيث تكون هذه العزلة وسيلة لتغذية رواسب الماضى أو إطارا لتصفية حسابات معه، ولو بعد حين. وقد يخلق الأديب كرنتينا طوعيّة خاصّة به، يتّخذها حاضنةً لإبداعه!
تصوّرات فلوبير
قبل أن يحطّ رحاله فى الشرق فى العام 1849، راكمَ فلوبير تصوّرات نمطيّة لطالما تزاحمت فى مخيّلة المُستشرِقين، حول سحر الشرق الذى يَنعم بالشمس والألوان والغوايات وسِحْرِ غرائبيّته. وكان إدوارد سعيد قد قيَّم تجربة فلوبير فى كِتابه المعروف «الاستشراق»، تطرَّق فيه إلى العلاقة الّتى جمعت فلوبير بكوتشوك هانِم، الراقصة التى اتّخذها حاكِم مصر سليمان باشا جارية له. كرَّس الروائى عبرها الصّورة النمطيّة عن المرأة الشرقيّة، قائلا «المرأة الشرقيّة لا تعدو شيئا سوى ماكينة جنس، فهى لا تُفرِّق بين رجل وآخر». فبقدر ما أظهرت مذكّرات فلوبير افتتانه بمصر التى صوَّرها من خلال مدرسته الواقعيّة، لم يتخلَّ الكاتِب عن تحقيره لكلّ ما هو شرقى، ما عزاه إدوارد سعيد إلى خلفيّة إيديولوجيّة تمتّع بها سائر المُستشرِقين الغربيّين، باعتبارهم ناشطين فى السياسات الاستعماريّة، سعوا إلى تبريرها من باب قصور شعوب بلاد الشرق عن إدارة بلادها، بسبب تخلّفها وسذاجتها.
بعد سنة، انتقل فلوبير إلى بيروت. فى هذه المدينة، لم تَنتج فوقيّته الاستعماريّة وحدها هجاءه المتجدّد للشرق، بل أيضا الحَجْر ــ باستثناء البحر الذى يطلّ عليه من نافذة الكرنتينا، لا فسحة هنا، ولا أجواء إيروسيّة تُلطّف العزل الذى فَرضه العثمانيّون. هؤلاء نقلوا ركّاب سفينته إلى كرنتينا بيروت ــ وهى منطقة واقعة على مقربة من المرفأ كان يتمّ فيها حجر الوافِدين إليها بحرا لمنْع تفشّى الأوبئة ــ للاشتباه بإصابتهم بالكوليرا، لأنّ السفينة مرّت بمالطا الغارقة فى وبائها. يكتب إلى نسيبته الآنسة بوننفان، ناقلا تعاطى الحرّاس الّذين أسقط عليهم تحقيره للعثمانيّين «لا شىء مُضحك أكثر من رؤية حرّاسنا وهُم يتواصلون معنا عبر الإمساك بعصا، ويقفزون من نقطة إلى أخرى للابتعاد عنّا حين نقترب منهم، ويتلقّون أموالنا فى وعاء ملىء بالماء». مُستنتِجا بسخرية أنّ «الكرنتينا اختُرعت لأجل ملء جيوب هؤلاء الأتراك الطيّبين». وتنسحب سخريّته على الطبابة والجسم الطبّى الذى أراد أن يسِمَه بالبدائيّة والغباء« (...) لتطهيرنا، جاء هذا الأحمق لتغطيتنا ببخار الكبريت النَتِن. كاد خادمنا البائس يختنق وراح يسعل وكأنّه مُصاب بأقوى درجات الزكام. حين نريد إخافتهم بأسوأ طريقة، كان يكفى أن نُهدّدهم بتقبيلهم، فتشحب وجوههم فورا. باختصار، حتّى لو كنّا موجودين الآن فى مكانٍ مريع، إلّا أنّنا نضحك كثيرا».
يحمل تقريع فلوبير تفسيرا اقترحه فيليب سترونغ ضمن عِلم الاجتماع الوبائى، الذى درس الاستجابة المُجتمعيّة للتهديد الوبائى باقتراحه «الوصْم والأخلاق» كأحد مكوّنات الاستجابة للوباء. فالوصْم الذى تحرّكه الكرنتينا ضدّ الآخر المُختلف يتِّخذ جانبا من الأثر الاجتماعى لتفشّى الأمراض المُعدية، يسمّيه عِلم النَّفس بـ«جهاز المَناعة السلوكى» الذى يولِّد الخوف من الأجانب والمُهاجرين. هذه الاستجابة تلوّنت لدى المُستشرِق الفرنسى بإيديولوجيا استعماريّة مع ما تنتجه من شوفينيّة وأحكام مسبّقه.
لوكليزيو وخطيئة الأجداد
يشترك جان ــ مارى لوكليزيو مع فلوبير فى الشغف بالترحال؛ إلّا أنّ تجربة لوكليزيو هى استجابة عكسيّة لإيديولوجيا المُستعمِر، بل مُناهِضة لها، فشكّلت انعكاسا أمينا لـ«مُستكشِف البشريّة ما وراء الحضارة السائدة وتحتها»، كما جاء فى وصف الأكاديميّة السويديّة إثر فَوزه بجائزة نوبل للآداب (2008). لوكليزيو هجين الجذور التى تجمع بين استعمارَين، بين أمّ فرنسيّة وأب بريطانى من جزيرة موريس، كَتب فى روايته «الكرنتينا» عن جدّه المُتمرّد الذى رفض الانضمام إلى الجيش الثورى فى أثناء الثورة الفرنسيّة، لأنّهم اشترطوا عليه قصّ شعره الطويل، ففرّ من فرنسا عبر البحر، قاصدا الهند «أشعر دوما أنّنى قريب لهذا النمط من الناس، حيث يذهب المرء منفيّا إلى أقصى حدود الدنيا كى يفلت من فعل أمر يُجبر عليه وهو لا يريده»، يقول لوكليزيو عن الجدّ.
كتب لوكليزيو «الكرنتينا» (1995) ليُعيد سرْد رواية أصوله الاستعماريّة فى قصّةٍ متخيّلة تُصالحُهُ مع هذه الأصول، من خلال ليون، بطل الرواية، الذى أراد العودة مع أخيه إلى جزيرة موريس، وهى مَوطن الأجداد. لكنّ إصابة راكبَين بالجدرى حملت المركب على إنهاء رحلته فى الجزيرة، حيث عاش ليون عزلة مديدة، تعرَّف خلالها على فتاةٍ هنديّة أحبّها. ولن يتكشّف الدور التطهيرى للكرنتينا، إلّا حين استأنف لوكليزيو رواية أصوله فى «ألما» (2017) التى اعتبرها «بمثابة تكفير عن ذنب الأجداد» الذين استعبدوا سكّان جزيرة موريس فى القرن الثامن عشر، وسلّطوا عليهم العنصريّة والمَظالِم.
إذا، على عكس فلوبير، لوكليزيو الذى يَعتبر أنّ «الأرض مكْث عابر»، جعلَ من الكرنتينا مطهرا لعنصريّة الأجداد. وهذا ما يتجلّى فى سائر كِتاباته التى تنفرد بفضاء الثقافات الهجينة، التى أعاد تصويرها فى عالَمٍ مُحرَّر من الحضارة المركزيّة القائمة على أنقاض المُستعمرات.
بروست فى العزلة الخلّاقة
ننتقل إلى مارسيل بروست الذى أنتج من حجْره الطوعى روايته الرائعة «البحث عن الزمن المفقود»، طوال ثمانى سنوات اعتزل خلالها مقاهى باريس وشوارعها وصالوناتها، مُفضِّلا مُلازَمة شقّته فى شارع هاملين فى الدائرة الثامنة. ثمّ توفّى بروست داخل عزلته فى العام 1922، كأنّه تنفَّس الصّعداء بعدما وصل إلى غايته فى كِتابة روايته الأهمّ، التى قسّمها إلى سبعة كُتب. بعض المُعاصرين عزوا عزلة الروائى إلى الالتهاب الرئوى المُزمِن الذى كان يُعانيه، فيقولون إنّه تأثّر بوالده أدريان بروست، المُراقِب العامّ للخدمات الصحيّة فى باريس، الذى كان من روّاد تدابير «الحجر الصّحى» لوقاية الفرنسيّين من الأمراض المُعدية التى انتشرت فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر فى الشرق الأقصى ودُول البلقان. وفى كِتاب بعنوان «السيّد بروست»، تورِد سيسيليت أباريه، مُساعدته فى المنزل، إجراءات الحجْر التى لا نزال نعتمدها بعد مائة عام، فقد كان بروست يرتدى القفّازات ليُصافح طبيبه وأخاه، وكانا من القلّة التى يُسمح لها بزيارته، كما احتفظ بآلة صغيرة تضخّ مادّة الفورمالين القاتلة للبكتيريا، فيُمرّر عبرها الرسائل التى يتلقّاها، ليقى نفسه أى عدوى قد تُفاقِم مرضه.
كان بوسع بروست أن يتّبع وقاية أقلّ صرامة. فهل من السهل التزام الحَجر طيلة ثمانى سنوات، وإن كانت الإنتاجيّة مضمونة؟ لكنّ الكاتب القائل «أحتاج إلى الصمت والعزلة، وشكل مُختلف فى وحدة المكان والزمان لكتابة عمل عظيم»، كشف عن جلاء حاجته لإبداع غير مطروق لا يُحقّقه، بحسب رأيه، سوى الحَجْر.
يقول بروست عبر روايته إنّ الزمن ينفلت من بين يديه، ولذلك فإنّه اختار مُعاكَسة الزمن، باستحضار ذكريات الماضى وإحيائها لتُشكِّل هى الواقع. المجال هنا يضيق على تغطية كلّ الذكريات، إلّا أنّنا نورِد الجزء الأوّل من مُجلّده، حيث تنعشُ يقظتُه المتقطّعة ذكرياتِ الطفولةِ البعيدة «عبثا كنتُ أعلم أنّنى لستُ فى المنازل التى وافانى جهل الاستفاقة فى لحظةٍ بصورتها الواضحة أو حملنى على الأقلّ على الاعتقاد بإمكانيّة حضورها، فقد تحرَّكت ذاكرتى (...). أمضى القسم الأكبر من اللّيل فى استذكار حياتنا السالفة فى «كومبريه» لدى شقيقة جدّى، وفى «بالبيك» وباريس و«دونسيير» والبندقيّة وفى أمكنة أخرى».
فى كِتابه «جماليّات المكان»، يحوِّل غاستون باشلار هذه العزلة إلى مَلعبٍ للذكريات، وفضاء حميم يُخصِّب خيال الكاتِب الذى يتغذّى من مَنابِت الطفولة، أى البيت الأوّل؛ إذ يرى فى تحليله النفسى أنّ البيت هو المكان الحميم الذى يوفِّر الألفة والحماية، والمجال الذى يثبّت جذورنا فى هذا العالَم: «حين نحلم بالبيت الذى وُلدنا فيه، وبينما نحن فى أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط فى ذلك الدفء الأصلى، فى تلك المادّة لفردوسنا المادّى، هذا هو المناخ الذى يعيش الإنسان المَحمى فى داخله».
ويرى باشلار أنّ البيت يحفظ ذكرياتنا من الضياع «الكثير من ذكرياتنا محفوظة بفضل البيت»، لذلك، فإنّ بَيت الذكريات يرتبط بالغرفة التى مَاَرَس فيها بروست حجْره، حيث يستعيد زوايا وأركان البَيت الذى احتضن الشخصيّات الرئيسة فى طفولته: «إنّ البَيت الذى وُلدنا فيه محفور بشكلٍ مادّى فى داخلنا. (...) بعد مرور عشرين عاما، وعلى الرّغم من السلالم الكثيرة التى سِرنا فوقها، فإنّنا نستعيد استجاباتنا للسلّم الأوّل». لقد اختلق بروست عزلته لأنّه يعلم غريزيّا أنّ المكان المرتبط بطفولته مكان خلّاق. وحدث هذا عندما اختفى ذلك المكان من حاضر الروائى العظيم، وحين علم أنّ المستقبل لن يُعيده إليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved