تعيش يا نيل يا طيب

طارق فريد زيدان
طارق فريد زيدان

آخر تحديث: الثلاثاء 1 يونيو 2021 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

لا صوت يعلو فوق صوت النهر. ولا سياسة مصرية أو عربية أو ميديترانية (نسبة إلى البحر الأبيض المتوسط) تدخل خزائن التاريخ من دون الختم الأزرق لنهر النيل العظيم. من يتجرأ بالتمرد عليه، عقابه الويل والثبور وعظائم الأمور. هذا ما تعلمناه من مؤرخين كبار فكوا شيفرة الجغرافيا وجعلوها تتكلم وتتحرك كأى كائن مكتمل الوظائف والمواصفات.

تميز العديد من الجغرافيين والمؤرخين الغربيين بحرفة أنسنة الجغرافيا وإخراجها من قوالبها وخرائطها الجامدة، ولعل أبرزهم سيريل فوكس فى كتابه «شخصية بريطانيا» وهالفورد ماكيندر فى «بريطانيا والبحار البريطانية» وإرنست لافيس فى كتابه «شخصية فرنسا الجغرافية». فى عالمنا العربى، خرج الجغرافى والمفكر الكبير جمال حمدان بمؤلفه الثرى والعميق «شخصية مصر، دراسة فى عبقرية المكان». سبقه إلى ذلك حسين مؤنس فى كتابه «مصر ورسالتها» وشفيق غربال فى «تكوين مصر». هؤلاء شرحوا أن الدور السياسى يأتى من خلال الشخصية الجغرافية وليس العكس. والأهم فسروا أهمية الجغرافيا فى بناء المجتمعات وكل ما تحمله من تاريخ وفن واقتصاد وحضارة.
تعلمنا من مؤرخينا أن لنهر النيل دورا لم يمنح له. الدور مكتسبٌ منذ أن صنع الإله حابى هذا المجرى المائى بحسب الأساطير الفرعونية. فيه يجرى الماء بقوة الجاذبية لا بقوة السلاح أو السياسة. يسافر من الأعلى حتى الأسفل عازفا نوتة مصرية سرمدية لا تزال تطرب أذن كل زائر. تصنع حكايات على أطراف كورنيشها ثم تدخل التاريخ من دون «إحم ولا دستور».
***
قبل مائة سنة، التقطت أذن رئيس المستعمرات البريطانى ونستون تشرشل هذا الصوت الجذاب، وهو يصنع خرائط وحدود فى المشرق العربى. من على «برندة» فندق سميراميس فى شهر مارس من العام ١٩٢١ عقدت اجتماعات ضمت أربعين عضوا متشحين بغواية المستعمر الذى لا يسمع إلا ما يُطرب كبرياءه. اجتمعوا لتسوية الفوضى التى خلفها الانهيار العثمانى بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بفوز الحلفاء عليهم. هؤلاء هم «تشرشل والأربعين حرامى»، كما وصفهم الكاتب البريطانى جيمس لانجتون. «عصابة سياسية»، تداولت بمصائر فلسطين والأردن والعراق. سرعان ما اكتشف تشرشل عندما أصبح رئيسا لوزراء بريطانيا العظمى أن هذا الصوت لا يأتى من دون فيضه. فاض النهر بساحر أسمر ألهب العالم العربى بكلامه. عندها صاحت هتافات فى الساحات العربية تغنى نوتة نهرية على وزن ناصر.

غير أن جمال عبدالناصر الإنسان ذاته وقع فى شباك هذا النهر الساحر. الرجل لم يجد سبيلا لاستعادة طعم الحياة إلا من على ضفاف الكورنيش النهرى للنيل. بحسب الكاتب العربى الأستاذ محمد حسنين هيكل، كان «الريس» جمال يسأل عن لقاءات الفنانين والصحافيين فى المقاهى الممتدة على طول الكورنيش فى قلب القاهرة. يسمع أخبارهم مستمتعا بالخلطة العبقرية التى تصنعها هذه اللقاءات لناس أتوا من تيارات متعددة بينهم الناصرى والشيوعى والأزهرى والتقليدى. هؤلاء كانوا يأتون من مغرب العرب ومشرقهم مع أكثرية من أهل الخليج مفتونة بالنهر العظيم (إلى يومنا هذا). فعلت الدواعى الأمنية فعلها فى جدول أعمال «الريس»، ما دفعه إلى سماع القصص الرديفة للتقارير الأمنية المدبجة بأقلام موظفين. كل ذلك وهو يحلم بفرصة المشاركة فى مثل هذه اللقاءات على إيقاع النيل. سنحت الفرصة مع زيارة رئيس قبرص المطران مكاريوس، فجرى الإعداد للقاء معه فى تراس فندق سميراميس. أعدت الخطة بكل تفاصيلها وبحماسة بالغة. وعندما وصل «الريس» إلى مكان الاجتماع.. والسعادة الفائضة تغمره، لم يتمالك نفسه فاتصل بمحمد حسنين هيكل قائلا «إحزر أنا فين؟» لربما كان يقصد أن أذنه اشتاقت إلى صوت النهر وإلى التصرف بكل طبيعية من دون قيود المنصب!
وجدت نفسى أستمع إلى قصة من وحى سحر هذا النهر لا تزال عالقة فى ذهنى. ففى أحد أيام العام 2020، وقبل انتشار جائحة كورونا بأسابيع قليلة وقفت مع مجموعة من الأصدقاء أمام فندق سميراميس فى انتظار سيارة أجرة. حينها وقف الأستاذ طلال سلمان بحزم وقال لى: لماذا السيارة، لما لا نمشى على كورنيش النيل سيرا على الأقدام؟

آثر الأستاذ طلال سلمان المشى على وقع صوت النهر، وهو الذى جعل صوته وصوت صحيفة «السفير» لعقود من الزمن «صوت الذين لا صوت لهم». التزمنا بأوامر الأستاذ سلمان وخلال مشينا بخطى هادئة، استذكر من زمن الشباب قصة رجل مصرى كان يلبس أجمل وأشيك الملابس بمعايير الزمن الناصرى. الطربوش الأحمر على الرأس والبدلة السوداء. فخامة اللونين الأسود والأحمر لا يقطعهما سوى لون المنديل الناصع البياض على صدره. بينما الفيونكة السوداء بأضلاعها المثلثة تحتل صدره بكل ثقة. كل صباح باكر، يجد الشاب طلال سلمان هذا الرجل جالسا أمام نهر النيل صامتا ومتأملا بكل هدوء وطمأنينة. ذات يوم اقترب سلمان منه بفضول يسأله سر هذه الجلسة اليومية. أجابه حارس النهر: «أنا أطمئن كل يوم على النيل، إذا كان بخير فالدنيا بخير».
***
بدون استئذان وبصنع هذا النهر صيغت أسطورة أم الدنيا. والأذن تطرب والعقل يفيض بينما الفرعون يتبدل. أكاد أجزم أن هذا الدور الفيضى للنهر هو سر القوة الناعمة لبلاد الفراعنة. لنتخيل الفلاح منغرسا فى الأرض تحت الشمس وبعد يوم مضنٍ من العمل الجميل والصعب، يسترق النظر باتجاه الماء الذى يجرى هونا فيصيح كما صاح الشاعر عبدالرحمن الأبنودى «وتعيش يا نيل يا طيب، وتعيش يا نسيم العصر»، ثم ترتسم على خد الفلاح ابتسامة عريضة مع آخر بيت فى قصيدة الشاعر وهو يقول «وتعيشى يا ضحكة مصر».
عجيب صوت هذا النهر. إذا انقطع ينقطع معه التاريخ وتتوقف الحياة. صوت وصل صداه إلى أصقاع العالم متخطيا تشرشل وجمال عبدالناصر وحارس النهر. لا تزال أفئدة كثيرين تهيم شطر مصر لسماع صوت نهرها. كل شأن فى الحياة المصرية هو نتاج فيض هذا النهر العظيم. فى السياسة والفن والثقافة والاجتماع والاقتصاد وحتى المؤامرات. هذه هى الروح التى تفيضها، لا شرق ولا غرب، هى ببساطة أم الدنيا. إذا توقف النهر توقفت الدنيا. اسألوا التاريخ عنها. هو حارسها وحاميها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved