رسائل إسطنبول الأربع

علاء الحديدي
علاء الحديدي

آخر تحديث: الإثنين 1 يوليه 2019 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

فى تطور يشير إلى دخول تركيا مرحلة جديدة على ساحتها الداخلية، فاز مرشح حزب الشعب الجمهورى العلمانى المعارض أكرم إمام أوغلو على منافسه من حزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا بن على يلدريم فى انتخابات الإعادة التى عقدت فى إسطنبول يوم ٢٣ يونيو الماضى على رئاسة بلدية إسطنبول. المفاجأة لم تكن فى فوز إمام أوغلو والذى سبق له الفوز فى الانتخابات التى عقدت فى ٣١ مارس وألغتها اللجنة العليا للانتخابات نتيجة ضغوط الحزب الحاكم وأردوغان شخصيا ظنا منه أنه يستطيع تخطى الفارق الصغير فى صالح الأصوات المعارضة، والذى كان ١٣ ألف صوتا فقط، إذا حشد أنصارة بشكل أفضل واستطاع جذب جزء بسيط من المعارضة. إلا أن النتيجة جاءت عكس ما كان يخطط له وليقفز الفارق فى الأصوات من ١٣ ألف صوت إلى ٨٠٠ ألف لصالح إمام أوغلو. وهو ما يعكس أربع رسائل أراد ناخبوا إسطنبول توجيهها إلى أردوغان وعلى النحو التالى:
الرسالة الأولى، ضرورة احترام العملية الديمقراطية ونتائجها، حيث رأى الكثير من الناخبين وحتى من أنصار الحزب الحاكم فى إلغاء نتيجة الانتخابات الأولى استهانة واستخفافا بهم. وبدلا من أن يزيد أردوغان من عدد مؤيديه، فقد الكثير منهم وخاصة بعد حملة التشويه التى تعرض لها إمام أوغلو والتى كان بها الكثير من التجنى والظلم، وهو ما دفع كثيرا من الناخبين إلى التعاطف معه، ودفع العديد ممن لم يشاركوا فى التصويت فى المرة الأولى إلى التصويت فى المرة الثانية وليرتفع عدد المشاركين بأكثر من مليون ناخب من نحو ٨٣٪ فى المرة الأولى إلى نحو ٩٢٪ فى المرة الثانية، صوت معظمهم لصالح إمام أوغلو فى رسالة واضحة من هؤلاء الناخبين بضرورة احترام نتيجة الانتخابات، أيا كانت.
الرسالة الثانية كانت من الأكراد الذين يشكلون ١٠٪ من سكان إسطنبول ونحو ٢٠٪ من مجمل سكان تركيا. وقد كان أحد أسباب نجاح حزب العدالة والتنمية فى السابق هو خطاب المصالحة الذى تبناه الحزب مع قضية الأكراد والإعتراف ببعض حقوقهم. إلا أن تبنى إردوغان خطابا مغايرا فى الآونة الأخيرة وخاصة منذ الانتخابات النيابية فى عام ٢٠١٥ بهدف جذب أصوات القوميين الأتراك المتشددين والدخول معهم فى تحالف انتخابى على حساب توجهاته السابقة أدى إلى استعداء الأكراد بعد أن كانوا أحد أهم مؤيديه. وقد حاول أردوغان استمالتهم مرة أخرى إليه من خلال بعض الخطوات الرمزية لحثهم على التصويت لصالح مرشحه فى الانتخابات الأخيرة، إلا أن جهوده أتت بنتيجة عكسية. فقد شارك الأكراد وبنسبة عالية فى الانتخابات الأخيرة ولصالح المرشح المعارض فى رسالة واضحة لأردوغان بأن للأكراد صوتا يمكن أن يكون مرجحا، ولا يستطيع التلاعب به كيفما يشاء.
الرسالة الثالثة كانت من فقراء إسطنبول وطبقتها المتوسطة التى عانت أخيرا من ارتفاع تكاليف المعيشة بعد تدنى قيمة العملة المحلية (الليرة) وفقدانها لأكثر من نصف قيمتها مع تقلص الاقتصاد التركى بنسبة 2.5% فى الربع الأول من هذا العام. وبما أن إسطنبول وحدها تمثل نحو 40% من إجمالى حجم الاقتصاد التركى، فلنا أن نتخيل تأثير هذا التراجع الاقتصادى على سكانها من ارتفاع نسبة البطالة وغلاء الأسعار. وعلى الرغم من محاولة بن على يلدرم الدفاع عن أداء الحكومة الاقتصادى بحكم موقعه السابق كرئيس للوزراء وإبراز عدد المشاريع الذى قام بتنفيذها فى مدينة إسطنبول مثل مطار إسطنبول الجديد، إلا أن رسالة أهل إسطنبول إليه كانت أن الواقع يكذبه وأنهم بحاجة إلى من يحسن أوضاعهم المعيشية ويحل مشاكلهم اليومية.
الرسالة الرابعة والأهم كانت من قطاع لا بأس به من القاعدة الشعبية المحافظة والتى كانت تؤيد وبشكل تقليدى حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب إردوغان. فقد أظهرت نتيجة الانتخابات ظهور شقوق لا يمكن تجاهلها فى القاعدة الانتخابية للحزب بعد أن استطاع مرشح المعارضة إمام أوغلو من نفض صورة حزب الشعب الجمهورى التقليدية الذى ينتمى إليه كحزب النخبة العلمانى المتشدد فى عدائه لكل ما هو إسلامى وتبنى خطابا جديدا إستطاع به جذب قطاع لا يستهان به من القاعدة الشعبية التى كانت تمنح صوتها دوما لإردوغان وحزبه. لذلك فإن نجاح إمام أوغلو المعارض العلمانى فى مواجهة بن على يلدرم أقرب حلفاء إردوغان رسالة لا تخطئها عين بأن القاعدة الشعبية التى كانت تساند إردوغان قد ظهر بها شقوق قد تتسع مستقبلا.
هذه الرسائل الأربعة تشكل صفعة قوية لإردوغان وحزبه، ولكنها ليست بالضربة القاضية بعد. فأردوغان مازال يحتفظ بمنصب الرئيس حتى عام ٢٠٢٣ فى نظام سياسى سعى هو إلى تغييره من نظام برلمانى إلى نظام رئاسى يجمع بين يديه الكثير من السلطات. وهى السلطات التى لم يتورع عن استخدامها بشكل مطلق لتعزيز قبضته ومحاربة خصومه والتنكيل بهم. بالإضافة إلى ذلك فيجب أن نتذكر أن إردوغان نجح سابقا فى تحويل الهزيمة إلى نصر فى الانتخابات البرلمانية وذلك عندما خسر الأغلبية النيابية فى انتخابات يونيو ٢٠١٥ ثم ماطل وناور حتى تم له ما إراد بإجراء انتخابات جديدة بعد ٦ أشهر فى ديسمبر من ذات العام إستعاد فيها ما فقده من أغلبية. وقد حاول أردوغان تكرار ذلك فى إسطنبول هذا العام ولكنه فشل هذه المرة.
من ناحية أخرى، لا شك أن انتصار أوغلو كان انتصارا مهما بكل المقاييس، وأن من يكسب إسطنبول يكسب تركيا باعتراف أردوغان نفسه. ومرد ذلك أن أكرم إمام أوغلو يختلف عن كل من سبقوه من حزب الشعب الجمهورى الذى أسسه مصطفى كمال أتاتورك. فالرجل معروف عنه أنه من عائلة تركية تقليدية وليس بحاجة إلى إثبات إنتمائه الإسلامى أو هويته الثقافية والاجتماعية، ومن هنا جاء إختراقه للقاعدة الشعبية التى طالما احتكرها أردوغان. كما أن إمام أوغلو يدرك أهمية تجديد خطاب حزبه كحزب وطنى علمانى بالعمل على التخفيف من غلوائه فى بعض المسائل وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الإسلام وكذلك العلاقة مع الأكراد. فعلى الرغم من أن حزب الشعب الجمهورى لم يتخذ مواقف الحزب القومى التركى المتشدد ضد الأكراد، إلا أنه فى ذات الوقت لم يعمل على جذبهم واستيعابهم كما فعل أردوغان فى السابق. ومن هنا فإن نجاح أكرم إمام أوغلو فى الحصول على تأييد الأكراد له يعد متغيرا رئيسيا فى الحياة السياسية التركية.
هذا، ويثير ما تقدم عددا من الأسئلة حول مسار إردوغان فى المرحلة القادمة، وما إذا كان سيعدل من نهجه الحالى والإستجابة لدعوات الإصلاح التى انطلقت أخيرا من بعض أنصاره السابقين كأحمد داوود أوغلو؟ أم سيعمل على تكريس مزيد من السلطات فى يده.
مع وضع جميع العراقيل أمام أكرم أوغلو والعمل على إفشاله بعد أن بات يشكل أكبر خطر عليه فى الانتخابات الرئاسية القادمة فى عام ٢٠٢٣؟ وأخيرا، هل سينجح إمام أوغلو فى تجاوز كل العقبات التى ستوضع فى طريقه والتغلب عليها؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved