انقلابات كورونا فى اللغة والسياسة والاقتصاد...!

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الأربعاء 1 يوليه 2020 - 7:05 م بتوقيت القاهرة

فاجأتنا انقلابات فيروس كورونا لتقلب ــ رأسا على عقب ــ الموازين الدولية الحالية، ولتُعلن عن مولد عالم جديد، وقوى جديدة، وتوازنات جديدة، وتقلب أيضا معتقدات وعادات ومفاهيم الإنسان المستقرة منذ عهد آدم، على عدة مستويات: اللغوى والاجتماعى والسياسى والاقتصادى والنفسى والأخلاقى، فدوام الحال من المحال!
على المستوى اللغوى، ظهرت تعبيرات ومصطلحات تعبر عن مفاهيم جديدة وغريبة، كان أبرزها: «الحجر الصحى فى مستشفيات العزل»، حيث تُمنع زيارة المريض؛ و«العزل المنزلى أو الفندقى»، حيث يُغلِق المريض على نفسه فى حجرة بمفرده، لا يخالطه أحد، فيحل الروبوت محل الإنسان لتقديم الدواء والطعام والشراب للمريض، كما حدث فى الصين؛ و«حفظ المسافات» بين الناس فى الأسواق، وفى المصالح العامة؛ و«التباعد الاجتماعى» المتمثل فى إلغاء الزيارات الاجتماعية، وعدم إقامة أى مناسبات كالأفراح أو التعازى، أو أى تجمع سواء من عائلة واحدة أو من مجموعة مهنية مثل الاجتماعات والمجالس فى العمل؛ وفى المساجد نُودِى بـ«الصلاة فى رحالكم»، بدلا من حَى على الصلاة، وحَىّ على الفلاح؛ و«التباعد الجسدى» وهو ضرورة وجود مسافات بين الأفراد فى كل الأماكن، حتى فى صلاة الجماعة عند عَودَتِها، فلن يدعو الإمام ــ أثناء هذه الجائحة ــ المصلين بسد الفُرَج بين المصلين لكى لا ينفذ الشيطان من بينها، ولكن ــ على العكس ــ سيطالبهم بالتباعد!
تُعتبر هذه التعبيرات انقلابية ــ اجتماعيا ودينيا ــ على مفاهيم مستقرة فى يقين البشرية، وعلى عكس ما فُطِر عليه الإنسان، فهى تدعو للتباعد، والتفريق بين الناس، ووصلت إلى التنافر، فلا سلام ولا قُبلات ولا أحضان، وإذا أقدم شخص نحو آخر نجد الأخير ينتفض بعيدا، وفى المناسبات الدينية، مثل رمضان، لم يعد مسموحا للأقارب بتناول الإفطار سويا، وفى الأعياد والمحافل والأفراح لن يتشاركوا البهجة والسعادة، وفى التعازى لن يَشُد بعضنا البعض، وهنا نرى إلغاءً لمفهوم «الإنسان حيوان اجتماعى»، أو فى «الاتحاد قوة»، أو فى الدعوة للتعاون بين أفراد المجتمع، كلها مفاهيم إيجابية سقطت فى أيام معدودات، واستبدلت فجأة بمفاهيم سلبية وصفها الوحيد «الأنانية»، هذا ما حدث بالفعل بين دول الاتحاد الأوروبى، عندما سَطَت بعض الدول على بواخر وطائرات محملة بالكمامات مُرسلة لدول شريكة لهم فى الاتحاد!
***
وعلى المستوى السياسى، تحطمت التحالفات والاتحادات، كما سبق الذكر، فلم تسع أى دولة إلا لمصالحها الذاتية، رامية وراء ظهرها كل تعهدات التعاون فى المصائب، والتساند فى الشدة، والتعاضد فى الأزمات، وهنا نرى بوادر الانفكاك بين دول الاتحاد الأوروبى، أو على الأقل إعادة تنظيم العلاقات بينهم، ولهذا وجب إعادة النظر فى مفهوم الاتحادات، والتكتلات الدولية بشكل عام، هذه كلها انقلابات لم يفكر فيها أحد من قبل على مستوى العلاقات الدولية!
وعن المستوى الاقتصادى، فلنتحدث بلا حرج، فقد عمّ الخراب أغلب القطاعات الاقتصادية، وأفلست كثير من الشركات، والهيئات المالية، وتوقفت المصانع العالمية، وتدنى الإنتاج، وانهارت قطاعات كاملة كالسياحة والطيران، وارتفعت نسب البطالة بشكل غير مسبوق، وتغيرت مفاهيم العمل مع ظهور العمل من البيت بالأون لاين، ودارت اجتماعات دولية بين رؤساء وملوك بالفيديو كونفرانس، كل هذه انقلابات فى نسق الحياة المعتادة للإنسان على مدى تاريخ البشرية!
وأما على المستوى الأخلاقى، فقد خسرت البشرية كثيرا من طبائع الرحمة والإنسانية، فلم يعد أحد يستجيب لطلب مساعدة من آخر فى الشارع، فهذا قتل للمروءة، كما سمعنا عن أبناء يرفضون دعوة أبيهم لرؤيتهم قبل موته، وقطع لصلات الرحم التى اقتصرت على وسائل التواصل الاجتماعى؛ وفى مصر، خسرنا كثيرا من صفات النخوة المشهورة بها الشعب المصرى، فشاهدنا أهالى قرية يتظاهرون ليمنعوا دفن جثة أصيبت بالكورونا، وآخرين يحرقون جثة متوفى بالكورونا، هذه انقلابات نفسية وسلوكية ستعانى منها الإنسانية جمعاء، وستتطلب وقتا طويلا، ومجهودا كبيرا من العلماء والأطباء النفسيين لمعالجتها!
وعلى مستوى هبات الطبيعة المجانية التى منحها الله لكل الناس بالتساوى المطلق، لم يعد الهواء الذى نتنفسه مجانيا، ولكن لابد من شراء الكمامات لتنقيته قبل استنشاقه، وبجانب فقدان حاسة الشم، فقدَ الناس أيضا حاسة اللمس بارتدائهم الجوانتيات فى العمل وفى الأسواق!
***
هذه كلها سلبيات وعيوب أوجدها فينا فجأة فيروس كورونا، ولكن دائما وأبدا لكل شىء وجهه الآخر، فمن ثنايا السلبيات تظهر الإيجابيات لتُنير لنا طريقنا الجديد، فالإيجابيات هى كثيرة أيضا وعلى كل المستويات السابق ذكرها.
على مستوى الطبيعة، استعادت البيئة نقاءها، فالتأم ثقب الأوزون، وخفَّ تلوث الهواء بنسبة كبيرة، وكذلك قَلّ التلوث السمعى الناتج عن أزيز الطائرات، وضجيج محركات السيارات، فهدأت الشوارع، وسكنت الطبيعة، فهو انقلاب لم يحلم به أحد، وقد فشلت محاولات دولية كثيرة لتحقيق هذا الهدف!
وكما أعاد الفيروس الطبيعة إلى نقائها وسكينتها، أعاد أيضا للأسرة الصغيرة الدفء واللحمة فلم يكن ــ فى أغلب الأحيان ــ يجتمع أفرادها فى بيوتهم الوقت الكافى لتبادل مشاعر الحب والود، فهذا ما فرضته علينا كورونا بشعارها «الزموا بيوتكم»، فأغلقت المقاهى والمطاعم أبوابها، وعاد الجميع للطهى فى البيوت، تجنبا لمخاطر العدوى والمرض، وللبحث عن طعام صحى ليست فيه أضرار الفاستفود، كما فيه من فوائد اقتصادية على الفرد والأسرة، فضلا عن أنها قللت من نسبة الجريمة بسبب الحظر، هذا انقلاب اجتماعى كان صعب المنال!
وعلى المستوى الفكرى والدينى، أهدت إلينا مفاهيم «التباعد»، و«حفظ المسافات» دعما قويا فى تحديث الخطاب الدينى، فما كان يحدث سابقا، وحتى لو وردت فيه نصوص مقدسة، يمكن مراجعته، لأنه مرتبط بزمان أو بمكان مُعينين، فالحديث النبوى فى صلاة الجماعة: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل بينكم، ولينوا بأيدى إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله»، لا يمكن تطبيقه فى الوقت الحالى، وهنا نتذكر عمر بن الخطاب ــ رضى الله عنه ــ بتعليقه حَد السرقة فى عام الرمادة، وكذلك إلغائه لمفهوم «المؤلفة قلوبهم»، عندما شعر بعدم الحاجة إليه، فهذه مادة خصبة يتعلم منها الناس أن تجديد الخطاب الدينى ضرورة حتمية لتتوافق حياتنا مع ظروف الحياة وانقلاباتها!
وفى مختلف أنواع الحياة العملية، خلق لنا الفيروس أُفقا جديدا: «العالَم الافتراضى»، فدفعنا لممارسة التعليم وإتقانه عن بُعد، ففى ذلك إيجابيات كبيرة كالبحث باستخدام وسائل المعرفة عبر خدمة الإنترنت، واعتماد الطالب على ذاته فى التحصيل، وعدم اللجوء دائما للدروس الخصوصية ومراكزها، فهى من وجهة نظرنا «دكاكين لتلقين العلم»، لم تستطع الحكومة محاربتها، أو حتى التقليل منها، فكانت لها مردود إيجابى كبير على الطالب، وعلى أولياء الأمور بتوفير مبالغ طائلة كانت تُنفق فى هذا المجال.
وفى مجالات العمل، لم يعد هناك ضرورة للخروج من البيوت، فقَلّ كثيرا زحام المواصلات، والشوارع، وأزمات المرور، وتكاليف البنزين؛ وفى العلاقات الدولية، أُلغى تنقل وسفر كبار المسئولين، ومساعديهم، وحراسهم الذين كانوا يضطرون للسفر بالطائرات، والإقامة فى فنادق الخمس والسبع نجوم، وذلك للقاء نظرائهم فى الدول الأخرى، هكذا أُزيحَت أعباء مالية باهظة من على عاتق ميزانيات الدول، فهذه انقلابات إيجابية لم يكن يتخيلها أحد!
كما أجبر الفيروس الحكومة المصرية الاهتمام بالرعاية الاجتماعية لفئات كثيرة كانت مهمشة، فلأول مرة تُصرف إعانات فورية للعاطلين، وللمتضررين من الوباء، وتُسجل أسماؤهم فى منظومة التأمينات، مما يعود بالفائدة على الدولة بعمل إحصائيات دقيقة تخدم فى تقييم الدراسات المستقبلية، هذا أيضا انقلاب لم يتوقعه أحد!
أما وأهم إيجابيات الفيروس، فقد أعاد ترتيب فئات وطبقات المجتمع، فى العالم أجمع، وفى مصر خاصة، فلم يعد الفنان، ولاعب الكرة، ورجل الأعمال يمثلون صفوة المجتمع، فكلهم ــ وبلا أدنى استثناء، ورغم ثرائهم الفاحش، ونجوميتهم الطاغية ــ انكشف ضعفهم، وقلة حيلتهم أمام العلم والعلماء والأطباء ومساعديهم الممرضين، لقد لقن فيروس كورونا هذه الفئات درسا قاسيا، عندما فقد بعضهم حياته لأنهم لم يجدوا علاجهم فى أوروبا، ولا فى المنتجعات السياحية التى بنوها لتحقيق مكاسب هائلة وسريعة، وأهملوا ما كان من الممكن أن ينقذ حياتهم، وحياة الآخرين، ويُحدث نقلة نوعية فى بلادهم، إذا أسهموا فى بناء المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث ذات القيمة المرتفعة، والتكاليف المعقولة، وبناء المستشفيات التى تخدم عموم المجتمع، ألا يستحق هذا الفيروس بانقلاباته الإيجابية أن نقول له شكرا على هذا التنبيه!
***
لقد كشف هذا الفيروس للعالم أجمع أن الحضارة لا تحميها قوة السلاح، الذى ندمر به بعضنا البعض، ولكن حمايتها تكون بدعم القيم النبيلة، والأخلاق الفضيلة، وتثبيت العدل فى كل أركان المعمورة، فلم تنفع الولايات المتحدة قوة أسلحتها، وثرائها المالى فى حماية شعبها، وحضارتها من فيروس ضعيف لا يُرى بالعين، ولن تنفعها انتهازية رئيسها ترامب بلجوئه للوسائل الميكيافلية السياسية، أو للحيل الدينية برفعه للإنجيل، فهذا لن يحميه من جرائم اعتدائه على القوانين، ومن عنصريته ضد العرب والسود والصُفر، فالكتاب المقدس لن يُبَرِّئه من جرائمه، كما لم يُبرئ ــ من قبل ــ الكثيرين مِمن رفعوا المصاحف الشريفة فى موقعة صفين، عندما بدا لمعاوية هزيمة جيشه أمام جيش على بن أبى طلب رضى الله عنه، ومرورا بجمعة «رفع المصاحف» للإخوان، ووصولا لرفع جمال وعلاء مبارك المصحف أثناء محاكمتهما!
هكذا بدأت إرهاصات أفول نجم الولايات المتحدة، لأنها تنازلت عن قيم الحرية التى ادعت نشرها فى العالم، وتخلت عن تحقيق العدالة فى القدس وفلسطين وغيرها، كما حدث لكل الحضارات السابقة عندما أضاعت قيمها النبيلة التى وضعتها فى الصدارة، فكان السقوط حتميا!
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved