وإنى أعرفك يا إسكندرية الشتاء

محمد موسى
محمد موسى

آخر تحديث: الثلاثاء 1 أغسطس 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

من اللحظة الأولى أطاحت حركة يوليو بالجميع، الوفد والشيوعيين والأعيان والارستقراطيين والإخوان المسلمين. عبرت الحركة عن نفسها بإعلام الصوت الواحد، وعن الشعب بحزب واحد هو الاتحاد الاشتراكى. وفى بنسيون ميرامار بالإسكندرية كان المطاردون جميعا هناك، فى نهاية الستينيات، وما أدراك ما السنوات التى تسبق الهزيمة.
هكذا نشر نجيب محفوظ شهادته عن عصر «ميرامار» قبل شهور من النكسة.
عن عامر وجدى الصحفى الوفدى الذى أطاحت به حركة الجيش إلى الهاوية بعد أن كان ملء السمع والبصر. «عندى المصران الغليظ والبروستاتا، نحمده على كل حال. ذهب الأصدقاء وذهب زمانهم، وإنى أعرفك يا إسكندرية الشتاء».
يتذكر حواره الأخير مع رئيس تحرير قبل الاعتزال، ويفكر: إنما خُلق القلم لأصحاب العقول والأذواق، لا للمجانين والمعربدين من ضحايا الملاهى والحانات. يرد على صاحبة البنسيون عندما تسأله عن موقفه المالى: أرجو أن يكون عمر مدخراتى أطول من عمرى.
طلبة بيك مرزوق نجم أحزاب السراى وعدو الوفد، ووكيل الأوقاف الأسبق. كان أيضا تحت الحراسة بعد تجريده من موارده. يقول: خسرت أموالى جميعا ثمنا لنكتة عابرة. المسألة ببساطة أنهم كانوا فى حاجة إلى مالى.
سرحان البحيرى، الابن الشرعى لنظام يوليو. من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومى واليوم عضو بلجنة العشرين وعضو مجلس الإدارة المنتخب عن الموظفين بشركة الإسكندرية للغزل. ممثل الثورة فى البنسيون، ومن الموعودين ببركاتها كما كان يعتقد.
فى السابق كان عضو لجنة الطلبة الوفديين، «كنا وقتذاك أعداء الدولة، أما الآن فنحن الدولة». أما الآن فهو يخطط لسرقة الغزل من مصنعه، وبيعه فى السوق السوداء. لا يعانى ضميره من اختلاس أموال الشعب الذى يتحدث باسمه فى لجنة مشاكل العمال، ولا من «زهرة» التى يغدر بها ليتزوج معلمتها الموظفة.
ثم زهرة الفلاحة الشابة التى يتلاعب بها الجميع، ويتحرش بها الجميع. ترفض العودة إلى القرية: هنا الحب والتعليم والنظافة والأمل. زهرة تضع قدمها فى عالم النور عبر بوابة العلم، تتعلم القراءة مع مدرسة خصوصية، وتقول بإصرار: سأتعلم بعد ذلك مهنة فلن أبقى خادمة. لكن البحيرى يقسو على زهرة حين يقارنها بمعلمتها الموظفة: هنا الفطرة والجمال والفقر والجهل، وهنا الثقافة والأناقة والوظيفة. ينقص هذه الرواية العظيمة فصل هو الأشد وطأة وأقوم قيلا، كان لابد أن تكتبه زهرة.
مثل أيام ميرامار، تعيش مصر الآن فى سياق سياسى أطاح بالجميع، ولم يقدم بديلا حتى فى صورة حزب واحد يعبر بصدق عن الشعب. وإعلام الصوت الواحد يتعامل مع مواطن بلا ملامح سياسية، باعتباره مؤيدا سرمديا مهما حدث. وإذا كان للمواطن أو الإعلامى رأى خارج السرب، فيجب أن يهرب إلى الخارج أو الداخل، مجللا باتهامات الإرهاب والعمالة، وقد يجد نفسه وراء القضبان بلا مناسبة.
هذه الأجواء هى التى جعلت إنجازات الستينيات الثقافية والصناعية تتهاوى من الواقع ثم الذاكرة، مقارنة بمشاهد القمع والإقصاء التى دهست الإنسان وكرامته. ذلك أن الإنسان أغلى من المصنع ومن الخطابات البلاغية. أغلى من المقدمات النارية التى نمضغها ليلا فنمتلئ بالكراهية وصيحات الانقسام، وقد نصحو على كارثة اسمها صباح الغد.
فهمها حسنى علام نزيل بنسيون «ميرامار»، وقال للبحيرى ذات خناقة: نحن نعيش فى الأيام التى تسبق يوم القيامة.
وما أدراك ما الستينيات حين تحولت سجنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved