أشباه الموصلات وأشباه المصانع!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الأحد 1 أغسطس 2021 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

عندما اشتعلت مؤخرا أزمة أشباه الموصلات فى الأسواق العالمية، قلت لنفسى إن أزمة كهذه يمكن أن تساعدنا فى فهم الصورة المعقدة لخريطة الإنتاج والتصنيع على صعيده العالمى. ذلك أن إنتاج هذه المواد الوسيطة يُعد حلقة رئيسية فى سلاسل الإمداد الصناعى العالمى. كما أن تعطل ولو محدود فى مصانعها الرئيسية فى شرق وجنوب آسيا، يكبد شركات تصنيع السيارات الأوروبية والأمريكية، وكبريات الشركات العالمية المُصنعة للمحركات والأجهزة التكنولوجية، خسائر اقتصادية فادحة؛ بل إن ديمومة هذا التعطل يمكن أن تترك الاقتصاد العالمى برمته واقفا على قدم واحدة. ولا غرو فى ذلك؛ فالعالم قد وصل لدرجة من التشابك والترابط والعولمة فى الأنشطة الاقتصادية، جعلت إنتاج مصنع سيارات فى إحدى المدن الألمانية رهنا لدوران عجلات الإنتاج فى مصنع آخر يبعد عنه آلاف الأميال فى إحدى ضواحى مدينة «هسينشو» التايوانية!
إن هذه الحساسية المفرطة للإنتاج المعولم والمحصور جغرافيا فى أقاليم محدودة فى قارات آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، تدفع الآن السياسات الاقتصادية القُطرية فى الاتجاه المعاكس للعولمة. ولذا، يحق لنا أن نتساءل عن دورها فى إعادة رسم خريطة التصنيع العالمية، ثم نتفكر فى مدى علاقتها بظاهرة أشباه المصانع المنتشرة فى باقى أصقاع عالمنا الثالث.
•••
مازالت العولمة الاقتصادية، على قِدمها كظاهرة عالمية، وعلى تنوع مسبباتها وعمق نتائجها، تقدم لنا الجديد فى العلاقات الاقتصادية الدولية. وقد بُذِلت محاولات جادة ومهمة، من اقتصاديى الشرق والغرب، لاستنباط هذا الجديد قبل حدوثه، أو لفهم تبعاته بعد وقوعه. ومن هؤلاء الاقتصاديين من يرى أن العولمة ستستمر فى الانتشار والتوسع عالميا، دون الاكتراث بما تواجهه من صنوف المقاومة محليا وإقليميا. وبعضهم يرى أنها وصلت لذروتها فى الانتشار، لكن تداعياتها هى فقط القابلة للاستمرار. وآخرون يقولون عكس ذلك، ويرون أن العولمة، مهما طال بها الأمد، مآلها للانحسار التدريجى. والقائلون بانحسار العولمة ــ وأنا من بينهم ــ يرون أن تزايد وتفشى النزعة القومية فى العديد من المجتمعات المتقدمة يعد بمثابة ردة واضحة عن العولمة الاقتصادية. انظر مثلا للدعوات التى يطلقها حاليا الساسة الأوروبيون لإعادة توطين التكنولوجيا الأساسية داخل أوروبا، كرد فعل طبيعى على الاضطراب العميق فى سلاسل التوريد العالمية. أو انظر تحديدا لما تركته الأزمة الطارئة لإنتاج أشباه الموصلات العالمية على التوجهات العاجلة والآجلة للسياسة الاقتصادية الأمريكية. فالاقتصاد الأمريكى، والذى كان المروّج والداعم الأول للعولمة، فى سبيله الآن للانكفاء على ذاته صناعيا. فماذا سيحدث لبنية الإنتاج العالمى إذا وصلت الولايات المتحدة لهذه الذاتية؟!
ولأقف على الأبعاد الكاملة لهذا الموضوع، طالعت تقارير عديدة حول اتجاه الإدارة الأمريكية لمراجعة شاملة لحصتها فى سلاسل التوريد العالمية، مع التركيز العاجل على تعزيز سلاسل التوريد المحلية فى الصناعات الاستراتيجية والدوائية. والهدف الأساسى من هذه المراجعة أن تقلل السياسة الاقتصادية من مخاطر انكشاف الاقتصاد الأمريكى أمام سلاسل التوريد العالمية، وخصوصا فى الصناعات القابعة حاليا تحت السيطرة شبه الكاملة للصين. فعلى إثر الاضطراب والاختناق فى سلاسل التوريد العالمية بفعل جائحة كرونا، ولتزامن ذلك مع أزمة أشباه الموصلات، صار من المجدى اقتصاديا إعادة توطين العديد من الصناعات محليا. فالصناعات المعدنية الأمريكية مثلا، وصناعة أشباه الموصلات والبطاريات الحديثة أيضا، والصناعات الدوائية كذلك، كلها الآن تعود أدراجها وتشهد نزوحا عكسيا لاستثماراتها فى اتجاه أمريكا الشمالية. ولما لا، والصدوع فى دولاب الإنتاج الأمريكى من هذه الصناعات اتسعت مؤخرا كأحد تجليات حربها الاقتصادية مع الصين، وكنتيجة لتراجع حصتها فى سلاسل التوريد العالمية. يكفينا هنا أن نشير إلى أن حصة الولايات المتحدة من صناعة أشباه الموصلات مثلا تراجعت لما دون 12.5% من الإنتاج العالمى.
•••
لقد استقر العالم زمنا على أن الصناعة التقليدية يُعاد نشرها فى الجنوب والشرق، مع إعادة نشر الزراعة الحديثة والصناعة الفائقة شمالا وغربا. فرخص الأيدى العاملة واتساع القاعدة الاستهلاكية مع ضعف القيود البيئية فى هذه الجغرافيا الواسعة جنوبا وشرقا، كانت كلها عوامل حاسمة فى رسم تفاصيل الخريطة الصناعية الراهنة للعالم. لكن من المحتمل أن تدخل هذه الخريطة قريبا فى ذمة التاريخ. فبينما كان المخطط فى ظل عولمة «انتقائية وغير عادلة» أن تظل المصانع المُعاد نشرها فى الجنوب والشرق مجرد أشباه مصانع، أو بالأحرى، عنابر تابعة لكبريات المصانع فى الشمال والغرب، وأن تستمر هذه العنابر فى عمليات التجميع البسيط وشحيح القيم المضافة، لتصير الحلقة الأضعف ضمن سلاسل التوريد العالمية؛ إذ بقلة من هذه المصانع تأخذ بناصية التكنولوجيا الحديثة، وتستأثر لنفسها بحصة متنامية من القيم المضافة العالمية على حساب الحصص التاريخية لمصانع أوروبا وأمريكا واليابان. والحال أن هذه القلة الصناعية تعيد الآن ــ ولو بالتدريج ــ رسم خريطة التصنيع العالمية؛ هذا ما أظهرته أزمة أشباه الموصلات.
«إن ترك الحبل على الغارب لتلك المصانع الجديدة، بعدما نجحت فى التحول من أشباه مصانع إلى مصانع تنموية، لن يتمخض عنه سحب البساط من تحت أقدام مصانع عالمنا المتقدم فحسب، لكنه سيمثل تهديدا مباشرا وعبئا ضخما على قدرات نمونا الاقتصادى فى المستقبل». هذا هو لسان حال مجالس الإدارات التنفيذية لمصانع العالم المتقدم، وهو أيضا لسان حال اقتصاديى ذلك العالم وراسمى سياساته الاقتصادية، وهم يشاهدون الازدهار السريع لمصانع آسيوية ــ وبالأخص صينية ــ خارجة عن سيطرتهم المباشرة. ولما كانت العولمة ــ فى منطق هؤلاء ــ سببا رئيسيا للوصول لهذا الوضع ولهذه الانتكاسة؛ فإن النكوص على، والتخلى عن، كل أفكار وسياسات الماضى المروجة للعولمة أصبح واجب الحاضر. ومن الدلائل الواضحة على هذا النكوص والتخلى، أن ترى العقبات التجارية ترتفع بشدة أمام الواردات الآتية من هذه المصانع الجديدة، وترى فى نفس الوقت الدعم الحكومى السخى لروابط المصنعين المحليين لينتصروا فى حلبة المنافسة، وأن تجد عشرات المليارات من الدولارات الحكومية مرصودة لأنشطة البحث والتطوير لإعادة توطين الصناعة محليا، ولمد سلاسل التوريد الوطنية، وترى مثلها مموِلة لخطط الإنقاذ الصناعى العاجلة. أفلا يمثل كل ما سبق ردة أمريكية كاملة على العولمة بالتزامن مع أزمة أشباه الموصلات؟!
على أن أهم ما يهمنا هنا، ونحن نشاهد هذه الردة وذلك النكوص، أن نلحظ جيدا الفوارق بين المصانع التى تسببت فى هذا الردة وبين أشباه المصانع المنتشرة عالميا فى بلدان عالمنا الثالث. وعبر هذه التفرقة، يمكن أن نحدد السمات والملامح الصناعية التى تُفضِّل مصنعا على آخر أو تميز سياسة صناعية على أخرى، وتلك التى ترفع شأن اقتصاد ما وتضع من شأن آخرين. وإنها لمهمة جديرة بالبحث والتمحيص!
•••
كما نعلم، فإن نمو عدد المصانع داخل أى اقتصاد يستخدم كمؤشر ودليل على نموه الاقتصادي؛ لكن هل يمكن الاعتداد بذلك النمو كمؤشر على الاستقلال الصناعى الوطني؟ ستقودنا الإجابة على هذا السؤال لتوضيح الفارق بين المصانع وأشباهها. فالمصنع، أى مصنع، هو ذلك الكيان الإنتاجى الذى يحوّل مدخلات قليلة النفع لمنتجات ذات منفعة اقتصادية مرتفعة. وكلما زادت درجة المنفعة فى منتجات المصنع، وكلما تنوعت مدخلاته المحلية، وكلما ارتفعت إمكاناته التصديرية، وكلما ارتقت قدراته التكنولوجية، كلما زاد فى المقابل ما يضيفه للاقتصاد من قيمة. وطالما اتفقنا أن المصانع تتفاضل فيما بينها حسب ما تضيفه من قيم اقتصادية، فإن عنابر التجميع تعتبر أقل أنواع المصانع مكانة فى سلاسل التوريد وسلاسل القيمة المحلية والعالمية.
ولسنين طوال، عكفت السياسات الاقتصادية ببلدان آسيا الناهضة على دعم الاستقلال الصناعى هناك. فلم تكتفِ تلك السياسات مثلا بإتاحة التمويل ــ المحلى والأجنبي ــ لفتح عنابر للتجميع الصناعى، على أهميته فى المراحل الأولى للتنمية؛ بل ساهمت ــ بنسب متفاوتة ــ فى أنشطة الاستثمار والإنتاج والتصدير الصناعى. ولم ترض أيضا إلا بدعم خطوط الإنتاج الوطنية المملوكة للقطاع الخاص الوطنى، لمحاكاة ثم لمنافسة الإنتاج المستورد. ولم تتوان أبدا عن تمتين الروابط بين مؤسسات البحث العلمى والمصانع الوطنية، لامتلاك وتطوير تكنولوجيا وطنية خالصة. ولم تترك أى فرصة لتنويع إنتاجها الصناعى وتعميقه بدون استغلال. كما وفى سعيها الحثيث لتجنب الوقوع فى «مصيدة» أشباه المصانع، ذهبت السياسات الاقتصادية المطبقة فى تلك الدول إلى تهيئة مواردها الطبيعية وتدريب كوادرها البشرية لخدمة استقلالها الصناعى.
•••
ليأذن لى القارئ الآن أن أذكر، على عُجاله، شروطا ثلاثة أساسية ليبتعد الاقتصاد النامي ــ شيئا فشيئا ــ عن ظاهرة «أشباه المصانع». والشرط الأول هو «شرط التكامل». وأقصد به أن تُصاغ السياسات الاقتصادية لتدعم المصانع المتكاملة والمتشابكة بقوة مع الأنشطة الإنتاجية المحلية، وتلك التى تزيد من استغلال الموارد الوطنية، أو التى تقلل من واردات قطع الغيار. والشرط الثانى هو «شرط التوازن». ويضمن الالتزام بهذا الشرط أن يذهب دعم السياسات الاقتصادية الجادة للمصانع التى تقلل من انكشاف الاقتصاد خارجيا، عبر تحقيق توازن ــ أو فائض ــ فى ميزانها الصناعي؛ لكيلا توسع من فجوة النقد الأجنبى وتزيد الضغوط الواقعة على سعر الصرف. أما الشرط الثالث والأخير فهو «شرط التكنولوجيا». فالمصانع التى تستحق دعما سخيا هى فقط التى تزيد من المعارف والقدرات الإنتاجية الوطنية، وتنقل وتوطن التكنولوجيا محليا، لتغنى الاقتصاد عن الارتهان للتكنولوجيا المستوردة، وتضمن له قدرا مرتفعا من الاستقلال الصناعى.
وفى اقتصاد آخذ فى النمو كالاقتصاد المصرى، أعتقد أنه لا مناص عن التزامه الكامل بهذه الشروط وهو يصيغ سياساته الاقتصادية؛ ليس فقط بهدف الفكاك من ظاهرة أشباه المصانع التى تمسك بخناقه؛ بل ليمتلك يوما مصنعا وطنيا لأشباه الموصلات ينافس مصانع شرق آسيا. وإنه لحلم قريب المنال!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved