قبل تآكل .. الرهانات الكبرى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 1 سبتمبر 2014 - 9:56 ص بتوقيت القاهرة

الرهانات الكبرى بدأت فى التآكل والتساؤلات تطرح نفسها على خفوت.

 لديه رخصة استنثائية لم تتوافر لغيره، فالناس مستعدة أن تمنحه ما يحتاجه من وقت حتى ترى أمامها أملا فى نهاية الطريق.

 أخطر ما يعترضه عدم حسم ما يجب أن يحسم.

 لا العدالة الاجتماعية تبدت أمام مواطنيه الذين راهنوا عليه ولا رهانه على رجال الأعمال أسفر عن شىء له قيمة فى صندوق «تحيا مصر».

 لا مؤسسات الدولة استكملت فى انتخابات نيابية جديدة ولا هناك حيوية سياسية تصالح شبابها وتصوغ التوافقات العامة على مشروع إنقاذ وطنى تحتاجه مصر بفداحة.

 هو رجل فى مهمة إنقاذ الإخفاق فيها ممنوع، فمصر لم تعد تحتمل إخفاقا جديدا.

 لم يكن بوسعه أن يتجاوز حزام الأزمات المتفاقمة من بنية اقتصاد تآكلت عافيته ومجتمع مثخن بمظلومياته إلى حرب مع الإرهاب ضارية وحدود مشتعلة بالنيران بلا كلفة تنتقص من شعبيته.

 هو نفسه يدرك الحقائق أكثر من غيره.

 من الطبيعى أن تتراجع الرهانات المحلقة عند اصطدامها بالحقائق الجاثمة ومن غير طبيعى تغييب السياسة على نحو منذر وارتفاع منسوب القلق العام بلا ضرورة.

 أول كمين أمامه تأجيل الانتخابات النيابية حيث يجب أن تبدأ وعرقلة مؤسسات الدولة من أن تستكمل.

 لا يوجد تفسير مقنع أو مقبول للتباطؤ فى إجراءات الانتخابات النيابية كأنها مؤجلة إلى وقت غير معلوم.

 فى الجو العام تساؤلات عما إذا كان ممكنا تأجيل الاستحقاق النيابى رغم أنه دستورى ملزم وليس خيارا ضمن خيارات أخرى.

 هذه مسألة شرعية لا تصح معها الاجتهادات أيا كانت نواياها.

هو مطالب أكثر من غيره أن يوقف أية مساجلات محتملة فإما أن تكون هناك شرعية دستورية أو لا تكون.

 تعطيل الانتخابات النيابية طعن مباشر فى الشرعية وانتقاص من ضرورات الدولة التى لم تستكمل مؤسساتها الدستورية مرة واحدة طوال نحو أربع سنوات.

 فى (١٨) يوليو جرى اتباع النص الدستورى الانتقالى فى الإعلان عن بدء الإجراءات الانتخابية خلال «مدة لا تجاوز ستة أشهر من تاريخ العمل بالدستور» ثم ران صمت طويل على المشهد الانتخابى كله باستثناء تفاعلات حزبية متقطعة عن ائتلافات مزمعة.

لا شىء فى المكان، لا حوار مع الأحزاب السياسية بشأن اقتراحاتها لتعديل قانون الانتخابات النيابية ولا موعد محددا للانتهاء من تقسيم الدوائر ولا موعد معلنا لإجراء الانتخابات نفسها.

فى مسائل الشرعية فإن أية خطوة لها خطورتها وتبعاتها.. وفى غياب وجهة الطريق كمائن أخرى تفسح المجال لتكهنات عن تعديل محتمل فى الدستور يوسع من صلاحيات رئيس الجمهورية على حساب السلطة التشريعية والحكومة التى تجيزها وتحاسبها.

المعنى يطعن مباشرة فى الشرعية، فالمؤسسة النيابية لم تنتخب بعد حتى تتبدى على أرض التجربة العملية مزايا وثغرات النظام الدستورى الجديد فى ضبط العلاقات بين الرئاسة والحكومة والبرلمان.

بافتراض أن التكهنات فى غير موضعها، وهذا مرجح، فإن تغييب السياسة يفسح المجال لتوالد الهواجس والشكوك والتساؤلات وتآكل إضافى فى مستوى الرهانات الكبرى.

أصل المشكلة أن المجال العام يضيق ومعدلات القلق ترتفع والكلام السياسى ينسحب بالتدريج إلى خلفية المشهد.

بلا طبقة سياسية قادرة وكفؤة فإن النظام الجديد قد يتعرض للانكشاف بأسرع مما يتوقع أحد.

الرئيس لا يلخص النظام السياسى وطاقته على الدخول فى التفاصيل لا تبرر التأخر فى بناء مؤسسة الرئاسة على نحو حديث. النظم تكتسب قوتها من خطابها السياسى وقدرتها على خلق توافقات واسعة على ما تتبناه من خيارات.

فى أى مشروع إنقاذ ممكن فإن الرؤى والإجراءات تتزاوج على نحو وثيق، فأية إجراءات مهما كانت تفتقد إلهامها بلا رؤى تمهد لها وتصوغ مسارها.. وأية رؤى مهما وصلت بلاغتها تفتقد أثرها بلا إجراءات تترجمها على أرض الواقع.

 بصورة أو بأخرى فإننا أشبه بمن يتحرك على ساق واحدة.

 هناك شىء من «تقديس العمل» الذى هو ضرورى للإنجاز وشىء آخر من شبه القطيعة مع الحياة السياسية.

 شبه القطيعة مشروع كمين آخر فى الأفق ينال يقينا من أى إنجاز محتمل.

 لا يجادل أحد فى وهن النخب السياسية غير أن الاستخفاف بها مسألة أخرى.

فى كل مرة اجتمعت كلمتها تغير وجه التاريخ المصرى الحديث كله منذ صعود «محمد على» إلى غروب «محمد مرسى».

الرؤى لا تخترع فمصر منذ دولتها الحديثة صاغت مشروعا وطنيا متصلا جددته من عصر لآخر بحسب تحدياته ومتطلباته.

 شعار «تحيا مصر» الذى اعتمده عنوانا لحملته الانتخابية ينطوى على نوايا وطنية تفتقد إلى مضامين معلومة تلهم فى عصور جديدة.

 فكرة «المصرية» رمزية أكثر من أى شىء آخر.

 فى بدايات القرن العشرين أخذت معناها الحديث مع صعود الحركة الوطنية بقيادة «مصطفى كامل»، ورغم تأثر الزعيم الوطنى الشاب بـ«العثمانية» فإن صرخته المدوية: «إن لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا» بدت نزوعا قويا لتأكيد فكرة الاستقلال عن الخلافة العثمانية ومن الاستعمار البريطانى معا.

 الفكرة تأكدت فى ثورة (١٩١٩) بزعامة «سعد زغلول» التى تردد فى تظاهراتها الحاشدة لأول مرة هتاف «تحيا مصر».

تاليا بدأت المعانى تتبلور والأهداف تتضح وافتقد الهتاف زخمه الذى كان عليه.

انعكس هتاف ثورة (١٩) فى هدفين رئيسيين: الدستور والاستقلال، أدرجت تحتهما روح جديدة للنهضة وبزغت فى خضم التجربة وما بعدها أسماء «طلعت حرب» فى الاقتصاد و«محمود مختار» فى النحت وكوكبة أخرى من الفنانين التشكيليين و«سيد درويش» فى الغناء و«طه حسين» و«عباس محمود العقاد» و«توفيق الحكيم» وقامات أخرى تلتهم توجت مرحلة كاملة من التاريخ المصرى وأضفت على الهتاف المدوى معناه.

 ثورة يوليو بزعامة «جمال عبدالناصر» احتذت معنى الشعار لا منطوقه فى أكبر عملية بناء أعادت صياغة الحياة من جديد بعدالة اجتماعية غير مسبوقة قياسا على أى تجارب سابقة فى التاريخ المصرى كله وبقيادة أوسع حركة تحرير فى القارة الإفريقية والعالم العربى. فى لحظة الهزيمة القاسية نهض المصريون وعندما هتفوا لاستكمال المشوار وتحرير الأرض المحتلة فإنهم كانوا يهتفون «تحيا مصر» لكن بمعان أكثر تحديدا وقوة وإلهاما.

فيما بعد «عبدالناصر» جرى الانقضاض على الثورة وإنجازاتها وهدمت الدولة، هو نفسه قال مرة: «إن مصر خربت فى الأربعين سنة الماضية» والمعنى ينصرف إلى بدايات سياسة الانفتاح التى يتحمل مسئوليتها الرئيس الأسبق «أنور السادات» وقال مرة أخرى: «أنا لا مبارك ولا السادات».

 لا رؤية منزوعة عن التاريخ الوطنى وحقائقه الأساسية التى أهدرت على نحو فادح فى العقود الأخيرة بما همش مصر وأعجزها.

ما يحتاجه فى بناء رؤيته أن يحسم اختياراته الأخيرة فلا زواج ممكنا بين متناقضات حتى تمضى مصر على ساقين فى مهمة إنقاذها الصعبة.

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved