«زى عود الكبريت».. الرجل الذى دخل «فيلم أبيض وأسود»!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 1 سبتمبر 2016 - 9:56 م بتوقيت القاهرة

وكأن رجلا أُلقى به فى فيلم «أبيض وأسود»، فأصبح جزءا من عالمه الغريب. هذه هى الفكرة الذهبية التى قدمها فيلم «زى عود الكبريت»، أفضل أعمال الراحل حسين الإمام، وأفضل فيلم كوميدى شاهدته فى العام 2016، وأحد أفلام «البارودى» أو المحاكاة الساخرة القليلة فى تاريخ السينما المصرية.

والمدهش أنه «بارودى» من الطراز الرفيع، امتزج بتحية عذبة لأفلام الأبيض والأسود عموما، ولأفلام حسن الإمام «والد حسين» بشكل خاص، كما ينقل الفيلم إلى مُشاهده حنينا مؤثرا لأيام زمان الحافلة بالأناقة المفقودة، والشوارع الخالية، وبأيقونات السينما المصرية رجالا ونساء.

«زى عود الكبريت» الذى كتبه، وقام ببطولته، وشارك فى وضع موسيقاه، وأخرجه، حسين الإمام، يمثل أنضج محاولات هذا الفنان الموهوب لترجمة قدراته المتعددة فى شكل فنى مختلف. بدأ حياته كممثل وكموسيقى، ودخل مجال الإعلانات والفرق الغنائية مع شقيقه الموهوب «مودى». ثم أنتج حسين الإمام أفلاما، واشتهر ببرامج الكاميرا الخفية، بل إنه قدم أيضا برنامجا عن فن الطبخ، وكان فى معظم الحالات لطيفا وظريفا ومبهجا.

فيلمه «زى عود الكبريت» أُنتج فى العام 2014، ولكنه لم يعرض تجاريا إلا هذا العام، وفيه تقريبا خليط من كل مواهب حسين المتعددة، لقد عثر أخيرا على النغمة المطلوبة، وحقق البهجة والتسلية والتجريب والسخرية اللاذعة، أعاد صنع أفلام الكباريهات القديمة فى شكل مضحك، ونجح فى أن يثبت مقولته التى تصدرت العناوين بأن الأمور ليست كما تبدو لنا، ولكن الأمور تظهر كما نحب أن نراها، هذا هو معنى الحكاية كلها: إعادة رؤية لسينما زمان، والكشف عن جانبها المثير للضحك.

«البارودى» فن صعب لأنه من السهل أن تنزلق من السخرية إلى الفجاجة، كما أنه يتطلب فهما كاملا للنوع الذى تقدم محاكاة ساخرة له، المحاكاة هنا محاولة للكشف عن الوجه الضاحك للنوع الجاد، وهى تعتمد بالأساس على معرفة المتفرج بالأصل، وإلا ما وصلته السخرية، وبالتالى فإن «الباردوى» يعنى بالضرورة تقديم التحية للأصل الجاد، والذى لولاه ما كانت الصورة الهزلية، ومن نماذجه القليلة مصريا فيلما «أخطر رجل فى العالم» و«عودة أخطر رجل فى العالم»، وهما محاكاة ساخرة لأفلام العصابات الأجنبية، وفيلم «فيفا زالاطا» وهو محاكاة ساخرة نادرة لأفلام الكاوبوى، وفيلم «لا تراجع ولا استسلام.. القبضة الدامية» الذى يقدم «بارودى» للأفلام البوليسية ولأفلام الأكشن معا.

لكن حسين الإمام قطع شوطا أبعد عندما مزج بين نجوم فيلمه القليلين «هو وسحر رامى وثلاثة أو أربعة آخرين»، وبين نجوم أفلام قديمة، مثل هند رستم وفاتن حمامة وليلى فوزى وماجدة الخطيب وأمينة رزق، ومحمود المليجى وحسين رياض وسراج منير وفاخر فاخر وفريد شوقى ويوسف شعبان ونور الشريف وسمير صبرى. هنا نحن تقريبا أمام فكرة إلقاء نجوم الفيلم، وسط نجوم زمان، مع دمج شخصيات السيناريو الذى كتبه حسين الإمام، مع شخصيات أفلام زمان، بما يستلزمه ذلك من تحريف وتحوير كوميدى صارخ، بطل الفيلم «وهو حسين نفسه» يحمل اسم وحيد عزت، مما يذكرنا باسم أنور وجدى فى «غرام وانتقام»، وكل الشخصيات القادمة من الأفلام القديمة، أو التى كتبها حسين، ستكون بالأبيض والأسود.

هنا فكرة طموحة قدمت بصورة جيدة، ظاهرها «التريقة» على أفلام زمان، بينما جوهرها هو تقديم التحية لسينما الأمس التى صنعت عالما كاملا موازيا للواقع، هناك مثلا الميلودراما التى تعلمها حسن الإمام من يوسف وهبى اسم الفيلم مأخوذ من مقولة وهبى الشهيرة «شرف البنت زى عود الكبريت ما يولعش إلا مرة واحدة» والتى صنعت نجومية كثير من الممثلات مثل هند وفاتن وأمينة رزق.

تلك الميلودراما التى قدمت مزيجا عجيبا يعتمد على المبالغة والمصادفات والتأثير العاطفى والغناء والرقص، ولكنها لا تخلو أيضا من المغزى الأخلاقى المباشر، الذى يدعو الفتاة لأن تفعل أى شىء ولكن «بشرفها»، والذى ينتهى دوما بهزيمة الشر بالضربة القاضية.

استوعب حسين الإمام ملامح عالم أفلام والده جيدا، مما أتاح له صنع سيناريو من مشاهد من عدة أفلام شهيرة مثل «الجسد» و«حب فى الظلام»، ودفع بشخصيات اصطنعها، مثل وحيد عزت وزيزيت ومباهج وخيار ومنقى، لكى تتفاعل مع شخصيات الأفلام، ومن هذا المزيج المركب صنع فيلمه المدهش.

أصبحت شخصيات حسين الإمام فى قلب عالم الكباريه، مثل شخصيات أفلام والده، وأصبحنا أمام إعادة إنتاج لنفس الكليشيهات القديمة، ولكن بعد أن وضعت فى إطار ساخر، حيث سنتابع علاقات وحيد عزت ببنات الكباريه، وعملياته الظريفة فى تصريف البضاعة، وطلب زيزيت «سحر رامى» منه أن يبحث لها عمن قتل والدتها مباهج، وهو نفسه الرجل الكبير الذى يدير حركة بيع وشراء المخدرات، سواء فى فيلم حسين أو فى أفلام السينما القديمة.

هذا البناء ليس سهلا بالمرة، ولكن حسين الإمام صنعه بمهارة، ربما لأنه تعامل معه بمنطق اللعب الذى يجيده، أو بمهارة رجل المقالب الذى يخرج الأرنب من القبعة، أو ببراعة الساخر التى امتاز بها، كما أنه يعرف أفلام والده جيدا، ووصل إلى جوهر الفكرة القديمة بالمبالغة فى تقديم عالم شرير وغير أخلاقى، وصولا إلى الإدانة الأخلاقية بنفس الدرجة من المبالغة.

اللافت أيضا أن حسين الإمام أضاف إلى هذه الرؤية فكرة الحنين إلى ماض تغير بعد العام 1952، وكأن نهاية الفيلم تترحم على العالم البسيط، الذى أفرز تلك الأفلام القديمة، والتى تبسط الأمور، وتصنع أنماطا من الأشرار والأخيار. إننا نشاهد طوال الوقت جميلات ترقصن وتغنين، وسط إضاءة ساطعة، ترتدين الفساتين السواريه الأنيقة، ولا ننسى افتتاحية الفيلم بصور هدى شعراوى، وفاروق وشقيقاته فى مرحلة الطفولة.

النجاح لم يكن فقط من خلال الصورة، ولكنه كان أيضا من خلال الموسيقى على شريط الصوت، حيث اعتمد حسين الإمام على منتخبات من الموسيقى العالمية، وموسيقى وضعها الراحل إبراهيم حجاج فى الأفلام القديمة، بالإضافة إلى موسيقى كتبها حسين الإمام نفسه، ولكن النهاية توقظنا من بهجة اللعبة، التى تعتمد فى جوهرها على ركوب آلة الزمن، ودخول فيلم قديم، إذ يخبرنا وحيد عزت بالتغير الذى حدث: لقد أعاد الزمن صياغة عالم الرقص والكباريهات، ربما بصورة أكثر تطرفا مما ذكرها الفيلم.

لم يخدش هذه المعالجة الممتعة سوى ذلك التباين الواضح فى مستوى جودة الصورة بين مشاهد أبطال الفيلم، ومشاهد الأفلام القديمة، رغم براعة المونتاج. لو كان لدينا متحف للسينما يحفظ أفلامنا ويرممها، لما حدث هذا التباين. لقد صنع القدامى «السينما»، ولكننا ما زلنا عاجزين عن إقامة متحف السينما «السينماتيك»، وهى مأساة إضافية تجعلنا نترحم من جديد، مع حسين الإمام، على زمان، وأيام زمان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved