مدينة المعجزات ومعجزات للمدن

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الثلاثاء 1 سبتمبر 2020 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

أنهيت مقالا كتبته منذ فترة عما يحدث من تغيرات فى شوارع مصر وخاصة توسعة الطرق وبناء الكبارى بأمنية أن يكون للقاهرة عمدة. وكنت فى الحقيقة أفكر فى عمدة مدينة برشلونة القريبة إلى قلبى. وهى المدينة التى أطلق عليها الأديب الإسبانى الكبير إدوار مندوثا «مدينة المعجزات» مُعنونا لروايته التى تجرى أحداثها فى فترة التحولات الكبرى التى شهدتها برشلونة فى القرن التاسع عشر سواء على مستوى العمران أو على مستوى الاختراعات التقنية والتغيرات الأخرى المتأثرة بالثورة الصناعية والتحديث فى أوروبا. وهى نفس الفترة التى قام فيها المعمارى الإسبانى الشهير سيدرا بعمل مخطط برشلونة الحديثة فى ذلك الوقت وبما لا يشبه أى مدينة أخرى من المدن الأوروبية القريبة والتى كان ينظر لها بعض قادة مجتمعنا فى ذلك الوقت كمثال يتبع فى الرقى والحضارة.
كتب أيضا الديفونسو فالكونيز رواية تاريخية ملحمية عنوانها «كاتدرائية على البحر» تحكى قصة بناء الكاتدرائية القوطية فى برشلونة والتى استمر بناؤها ما يقرب من خمسين عاما أى على امتداد ما يقرب من جيلين من السكان. وبالرغم من إعجابى وتأثرى بفكرة أن يستمر مجتمع ما لمدة جيلين وهو يحاول عمل شىء ما، إلا أن مدينة المعجزات تبقى الأقرب لقلبى وعقلى ربما لأنها أيضا مرتبطة فى ذهنى بهذه الطاقة الكامنة فى المدينة، والتى حاول عمدتها أوريول بوهيجاس بعد قرن كامل فى تسعينيات القرن العشرين استلهامها، وعمل على وضع رؤية لتطوير المدينة تتكون من عشر نقاط كما شرحها فى خطاب استلامه للجائزة الذهبية للاتحاد الملكى للمعمارين البريطانيين فى لندن كأول مرة تذهب فيها الجائزة ليس لمعمارى كبير ولكن لمدينة. وفى خطابه تحدث عن الإطار الذى تبناه لإحداث تحول كبير فى المدينة والتى عرض فيه فهمه الواسع للعمارة ودورها فى دعم حياة أكثر شمولا للمواطنين ومدينة يصبح فيها للمكان العام دور جوهرى فى توفير ليس فقط أماكن القاء والتبادل بين الناس ولكن أيضا مكان يمكن اعتباره المدينة بذاتها. ولا شك لدى فى أن تلك الإصلاحات التى تمت من خلال رؤية تضع الأولوية لمواطنيها هى من أهم أسباب شعبية تلك المدينة بصفة خاصة بين زوارها مقارنة بمدن أوروبية أخرى ربما بها من الآثار والمبانى ما هو أقدم وأعرق.
وإذا كانت هناك مدن مثل برشلونة وغيرها تحولت وتبدلت بفعل ما يمكن أن نطلق عليه معجزات، هى فى الحقيقة من صنع العقول الشغوفة والمليئة بالعلم وأيضا بفهم عميق للمجتمع والإنسان، فإن مدنا أخرى مثل القاهرة والعديد من المدن المصرية تحتاج أيضا إلى ما هو قريب من تلك المعجزات لكى تتحول للواقع الذى يتمناه ويستحقه مواطنوها.
ولأن المعجزات ليست حصرا اختراعات خارقة من العلماء العباقرة أو تقنيات غير معروفة مسبقا، فما تزال برشلونة المدينة الحية تظهر لنا حتى الآن أنها مستمرة فى إدهاش مواطنيها. حيث عاد المواطنون للشارع بعد عدة أشهر من الإغلاق التام بتأثير الإجراءات المشددة المتخذة للوقاية من كوفيدــ19 ليفاجئوا ليس فقط بمدينة نمت بها الأشجار أكثر ولكن أيضا بـ 20 كيلومترا طوليا من حارات العجل المؤقتة التى تسهم فى تحول المدينة إلى مكان أكثر إنسانية، وأكثر ذكاء فى التعامل مع الطبيعة، وأكثر دعما للتنقل والحياة المستدامة، هذا بالإضافة لما توفره من أموال طائلة جراء الحفاظ على صحة الناس وتقليل التلوث. هذا على الرغم من أن المدينة تعرف ركوب الدراجات وطرقها والدراجات العامة منذ ما قبل عام 2007 حين رأيت ذلك بعينى.
الجميل فى معجزات مدينة برشلونة أنها كانت من صنع أناس شغوفين إلى حد ربما الجنون بالعلم، ولم ينتظروا فقط ليتقنوا ما هو متاح من نتاج جيرانهم القريبين أو البعيدين، ولكن قاموا بالعمل وكان للخيال دور كبير. وأستطيع أن أرى فى ذلك حالة إنسانية أتمنى أن نساعد فى إيجاد الظروف المناسبة لإطلاقها فى مدننا.
عندما أنظر وينظر غيرى حولنا ويرى ما يحدث أحيانا (فى الحقيقة طوال الوقت) فى القاهرة أو فى مدن أخرى فى مصر من قطع لأشجار تضفى على حياتنا اليومية بعضا مما نحتاج بشدة من الجمال والظلال والهواء النقى أو هدم لمَبانٍ لا شك فى أنها هامة حتى وإن لم تكن مسجلة كأثر وغير ذلك مما لا يسر، نتوقع أننا قد نكون بحاجة لمعجزة لانتشالنا من هذا الذى يكاد يطاردنا. ربما تحتاج القاهرة وباقى مدننا فى مصر إلى المعجزات، ولكن تلك المعجزات لن تكون إلا من صنعنا، صناعة مشحونة بالشغف والخيال ومبنية على رؤية شاملة ولا شك أن تلك المعجزات يمكن أن يخرج منها مستقبل ليس فقط أكثر إدهاشا لنا ولكنه سيكون أيضا أكثر ودا ورحمة بالجميع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved