الاحْتِرَارُ.. وَالمِحْرَارُ

صادق عبدالعال
صادق عبدالعال

آخر تحديث: الثلاثاء 1 سبتمبر 2020 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

أليسَ الاِنفِعالُ العارِمُ والمُتمثل فى الغضبِ، يؤدى بِكَ إلى الغليانِ الداخلى والإحساس فجأة بارتفاع فى درجة حرارة جسمك؟
فهذا الشعور انتابَنى مُؤخرًا، إذ أكتشفُ بعد دراسةِ وممارسةِ مهنة طبُّ الأطفال لأكثر من أربعين عامًا، أنَّ كلمةَ «المِحْرَارُ» فى لُغتِنا العربية الجميلة تَعنى مِقياسُ الحرارةِ الطبى.. كاظِمًا غيظِى، لا استوعِبُ حتى اللحظة ما جَرى عليه العُرفُ فى التدريس الطبى بالجامعات المصرية، ليس فقط من ظاهرةِ تغريبِ ــ باللغة الغَرْبِيَّة، غرابةً ــ لأبسطُ الأجهزةِ الطبيةِ وأكثرُها استخدامًا، بل أيضًا من ظاهرةِ نُطقِهِ خطأً (الترمومتر) بدلا من (الثرمومتر) بالثاء، إشارة باللغة الإنجليزية لوحدة قياس (المِتر) درجة الحرارة (ثِرمو).. فلم نكتفِ فى طَمْسِ التشكيل والتنوين باللُغة العربية، فى تغريب أحرُف اللغة العامية، بل أيضًا استِسهَال تحريف وتمييع أحرُف الكلمات الطبية الغربية.. وكل ذلك بحِرفَةٍ تبدو لى مُؤَكَّدًا مُغرِضَة!
ظاهرةٌ أخرىَ، انتشرت مؤخرًا كالنار فى الهَشيم، ألا وهى تصويب المِحْرَارُ ذات الأشعة تحت الحمراء نحو الجبين لقياس درجة حرارة الجسم الخارجية، متصورًا أنه الكاشف الأمثل لقياس درجة حرارة جسمك.. فجدير بالذكر، أنه لا يوجد رقم واحد يمثل درجة حرارة «طبيعية» لجميع الأجناس، كما أنَّ درجة حرارة الجسم تتراوح أصلا ما بين ٣٦، ٥ إلى ٣٧، ٥ درجة مئوية فى الوضع «الطبيعى»، وقد تصل إلى ٣٨درجة مئوية عند الأطفال لكثرة الفرط والحركة.. إضافةً، درجة حرارة جسم الإنسان الواحد تَتَمَوَّجُ صعودًا وانخفاضًا بشكلٍ طفيفٍ خلال اليوم الواحد، أدناها فى أولى ساعات النهار فَجْرًا وأقصاها بعد الظَهِيرة، وهذا يُعَدُّ أمرًا طبيعيًا.. إلى جانب أنَّ هُنالِك مُتغيرات أُخرى تؤثر على ارتفاع درجة حرارة الجسم، مِثلَ طبيعة المناخ المحيط للجسم، سواءٌ كان الصناعى من تأثير «مُكَيِّفَات» التبريد، أم الطبيعى والذى يَتَطَبَّعُ عليه مركز التنظيم الحرارى بالمنطقة الأمامية فى المخ، مِثلَ ارتفاع الحرارة غير المَرَضيَّة بعد ممارسة أى مجهود بدنى، مِثلَ تناول الطعام وما لعملية الأَيْض (التمثيل الغذائى) من تأثير على ارتفاع طفيف لحرارة الجسم، مِثلَ القلق النفسى والتوتر العصبى المُفرط.. هذا ومن جانب آخر، من الطبيعى ألا يستطيع المِحْرَارُ اكتشاف الفرق بين الإصابة بحُمَّى ميكروبية مَرَضِيَّة، أو إصابة البالغ بالصدمة الحُرُورِيَّة أى بضربة الشمس المباشرة، أو إصابة الطفل بِضَرْبَةِ الصَهْدِ داخل غرفة مكتومة ودون التعرض مباشرةً لأشعة الشمس.. فى حين، أنَّ ما يُمارسه بعض المسافرين من استخدام عمدًا الأدوية الخافضة للحرارة قبل الوصول لبلد المقصد بفترة ما، لغرض طمث حرارتهم عند الوصول، تخوفًا من الحجز بالحجر الصحى فى المطار، فهذا يعتبر أمرا آخر عجيبا، غير طبيعى!
وفى السياق ذاته، متوائمًا مع بقية الخطوات الاحترازية المُتَّخَذَة إزاء الجائحة الفيروسية التاجية، تجدُ أينما تذهب الآن لتقضى مصلحتك، ظاهرة من يقف مشدودًا أمامك مُمدا ذراعيه نحوك، يُصَوِّبُ نحو منتصف جبين رأسك جهاز بشكل المسدس، يتكئ بالسبابة على الزناد ليُطلق «طلقة» ما، يتأكد من وَضْعِكَ «الحَرَارِى» المُستَتِب، ليسمح لك بعدها بالمرور.. وحَسْبَ ملامِح حامل هذا الجهاز، يَشْرُدُ ذِهنك للخيال: فإن كان مبتسما بشوش الوجه تسترجع فورًا أفلام الخيال العلمى لحرب النجوم وأسلحة الليزر المستخدمة، وإن كان عبوسُ الوجهِ مُكفَهِرُّ السِحنَة، فلن تَتَمَلَّكُ ذاكِرتك أن تسترجِع الصورة التى غيَّرت مسار الحرب فى ڤيتنام من خمسين عامًا، ومن يطلق على سجين وسط شوارع العاصمة (سايجون) رصاصة فى رأسه ليرديه قتيلا، بلا رحمة وبلا أدنى «حرارة» إنسانية.. وفى واقع الأمر، نحن الآن فى حرب شعواء، حرب مع كائن خَفِى شرس، ڤيروس لا هو حى ولا هو ميِّت، لا رحمة له ولا هوادة تجاه الكائن البشرى الهزيل، خاصةً الذى يُضْعِفُ بِنفسِهِ آلية الدفاع الخاصة بجهازه المناعى، يُهدِرُها ــ جهلا أو عمدًا ــ طوال الصيف، من المفترض أن يَتِمُّ خلاله اسْتِنْفَارٌ أَمْنِى، لكيلا يقع ضحيَّة سهلةُ المنال لأى من الفيروسات المُستََجَدَّةِ شتاءً، والمُتجَدِّدَة أشكالا وسُلالتًا لأبد الدهر!
ومن ثم، بدلا من أن يُرهِق بالَهُ بمعرفة آخر نتائج احتدام التناحر لمائتى شركة عالمية للتحصينات «المُرَشَّحَة» للحدِّ من تداعيات الفيروس التاجى.. وبدلا أن ينصاع للأقاويل «المُرتَشِيَة» التى تطالبه بتجربة تطعيمات الأطفال التقليدية مثل السُّل وشلل الأطفال، مُبررًا إياها أن الأطفال هم الفئة العمرية الأقل إصابة (وهذه الادعاءات أُفنِدَت مُؤَخَّرًا لِما صدر من بيانات المراكز الأمريكية لمكافحة للأمراض والوقاية فى منتصف شهر أغسطس الماضى، بأن الأطفال يشكلون الآن أكثر من ٧ فى المائة من جميع حالات كوفيدــ١٩ فى الولايات المتحدة الأمريكية، حسب آخر إحصاءات الحالات التى تتزايد باطراد من فترة شهر مارس إلى يوليو الماضى).. وبدلا من أن ينساق فى مهب الريح للصراعات الدوائية انطلاقًا من دوافع المنافسة التجارية والعلمية، ليتعاطى ــ عجبًا ــ دواء الملاريا الطُفَيْلِيَِّة، مُدَّعِيًا أنها تقوم بعملية التعزيز المشترك للجهاز المناعى crossــimmunity ولم تُثبُت بعد جدواها العلاجى، بل رُفضت من قِبَلِ منظمة الصحة العالمية.. فبدلا من هذا وذاك، فما عليه إلا أن يسبق الأحداث، ويُسرِع بتعزيز جهازُهُ المناعى ملتزمًا بالتغذية السليمة والرياضة المستديمة، يسبق صيفًا بوقاية ذاته من جراء أمراض الاحْتِرَار HEAT ILLNESSES والمتمثلة فى الإرهاق الحرارى، ضربة الشمس وضربة الصَّهد، التشنجات العضلية، الطَّفح الحرارى الجلدى.
أخيرًا وليس آخرًا، ليكن كلامى واضحا وضوح احْتِدام الشمس.. «حُمَّى» الافراط فى استخدام مقياس الحرارة الطبى بأنواعه المختلفة ــ المِحْرَارُ فى لُغَتِنَا الأُم ــ هدفُهُ الأوحد هو إظهار فقط عَرَضٌ جسدى وهى الحرارة، وقد تكون لسبب طبيعى أو بالأرجح مرضى.. ليس من قُدُراتِهِ أن يُشَخِّصَ مرضٌ لأى شخص.. ليس من سُلطاتِهِ أن يستبعد أى فرد لقضاءِ مصلحةٍ ما.. إلا أنَّ، من منظور نهج الصحة الاستباقية PREــEMPTIVE HEALTH، خطوةُ السبق بقياس درجة الحرارة قَبْلَ (وليس وَقْتَ) الإصابة مثلا بأمراض الاحْتِرَارِ تعتبر بالفعل فى صميم مصلحتِك.. فكيف تستطيع أن تُجزم مدى ارتفاع درجة حرارة جسم أولادك، وأنت لا تدرى أصلا درجة حرارتهم الأساسية الطبيعية؟! هل فكرت أن تُدَرِّب نفسك وأفراد الأسرة على استعمال المِحْرَار بأنواعه ــ الزئبقى أو الرقمى ــ ما قبل أن يصاب أحد بالحُمَّى بأنواعها، وقبل أن تُصاب شخصيًا بحُمَى الذُعر والهلع؟! هل فَكَّرت فى السبق بلصق ورقة على دولاب صيدلية المنزل مُبيِّنًا فيها درجات الحرارة الطبيعية المختلفة لأفراد أسرتك، تلك الصيدلية المُكتَظَّة بشتى أنواع مُثَبِّطَات الحرارة، ومُثَبِّطَات المناعة البدنية والنفسية الأخرى؟! هل فكَّرت عند اضْطِرام الحرارة صيفًا، أن تُداوم على عادة استحمام أولادك بالمياه الدافئة، ليس فقط لكى يَحسُّوا نسبيًا بعدها بانتعاش المناخ المحيط بهم، بل لكى يتجنبوا الإصابة بنزلة «البرد فى عز الحرّ» بعد أن يصبحوا مثلُكَ من «مُدمِنى التَّكَيُّف» من أجهزة التكييف!
خلاصة القول، الردُّ وأيضًا ردُّ فِعلَك ــ إيجابًا وإيجابيًا ــ على تنويهات وتوجيهات تلك الأسئلة، سيُرشِدك ــ كمثال ــ لأصحِّ السُبُلِ ليس فقط لتجنب الأمراض الاحْتِرَارِيَّة بل أيضًا الڤَيرُوسِيَّة بأنواعها، وهذا هو سبيل الصحة الاستباقية المفتقد. أما إذا لجأت فقط (للصحة الوقاية) والاكتفاء مثلا بوقاية رأسُك ــ سلبًا ــ من قَيْظِ الشمس، وإذا اندفعت مُهَروِلا نحو (الصحة العلاجية) توّ الإصابة بضربة الشمس، معتقدًا أن استعادة الحيوية تكون فقط باستخدام المضادات «الحيوية» أو الحَرَارِيَّة. فأرجوك سارع باستعمال جهاز المِحْرَار وقيس حرارةُ «المَنْطِق» الخاص بِكَ، إن أمكن ذلك فى البداية أو.. النهاية!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved