نبيل العربى.. الرجل والتاريخ
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 1 سبتمبر 2024 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
«لا يليق بمصر أن تتسم سياساتها الخارجية والمواقف التى تتخذها بالارتجالية، أو بمخالفات جسيمة لقواعد أساسية فى القانون الدولى كالموقف الذى تتبناه تجاه الحصار المفروض على قطاع غزة».
كان ذلك نقدا جذريا للحصار الخانق على غزة لم يتردد فى تسجيله قبيل إطاحة نظام «حسنى مبارك»، والتزم الموقف ذاته طوال رحلته فى الدبلوماسية والحياة.
اتسقت مواقفه فى الوقوف مع القضية الفلسطينية وعدالتها مع سجله الدبلوماسى والقانونى ممثلا لمصر لدى الأمم المتحدة فى جينيف ثم نيويورك تسعينيات القرن الماضى وعضوا فى محكمة العدل الدولية ورئيسا لوفد مصر فى معركة استعادة طابا.
تمازجت عنده نظرتان أساسيتان، الأمن القومى والقانون الدولى.
بصياغة أخرى، الأمن القومى من منظور القانون الدولى.
فى سجله الدور الذى لعبه قاضيا بمحكمة العدل الدولية عندما أصدرت حكما تاريخيا بإدانة الجدار العازل.
قبل ذلك الحكم وبعده شنت الولايات المتحدة وإسرائيل حملة دولية ضده تشكك فى حيدته كقاض دولى.
تصدى للحملة عليه بالتضامن معه قضاة المحكمة الدولية قبل أن يصدروا حكمهم المدوى فى يونيو (2004).
لم تكن مصادفة إسناد وزارة الخارجية إليه فى مارس (2011)، لكنه غادرها بعد شهور قليلة أمينا عاما لجامعة الدول العربية.
اكتسب شعبية كبيرة فى العالم العربى إثر تصريح أطلقه فور توليه المنصب الوزاري: «إيران ليست عدوا وكامب ديفيد ليست مقدسة».
كان أداؤه لافتا فى ملفات المصالحة الفلسطينية بين «فتح» و«حماس» وأزمة مياه النيل وتخفيض التوتر مع إيران.
شارك فى حدثين جوهريين بتاريخنا المعاصر، متابعا وشاهدا.
الأول: مستشارا قانونيا للوفد المصرى فى مباحثات «كامب ديفيد».
والثانى: رئيسا للوفد المصرى فى معركة استعادة طابا.
قبل توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» فى (17) سبتمبر (1978)، سجل ملاحظات جوهرية عليها.
فى ذلك الوقت كانت قد تفاقمت حدة الخلافات بين الرئيس «أنور السادات» ووزير الخارجية «محمد إبراهيم كامل» حول الطريقة التى تجرى بها المفاوضات أفضت إلى افتراق نهائى بالاستقالة.
لم يكن أحد آخر من أعضاء الوفد مستعد أن يصحبه للقاء توقعه عاصفا وعصبيا.
وجد فى نفسه الشجاعة أن يذهب منفردا لـ«السادات» طالبا عدم التوقيع على الاتفاقية بالصيغة التى كتبت بها.
كان ذلك موقف الوفد المصرى كله.
لم يأبه «السادات» بملاحظاته القانونية قائلا: «أنتم تنظرون إلى الشجرة أما أنا فأنظر إلى الغابة»، قاصدا أن خبراء وزارة الخارجية يستغرقون فى التفاصيل التى تحجب الرؤية الكلية.
بدا «السادات» مستعدا أن يمضى إلى آخر الطريق منفردا دون أن توقفه الاعتراضات الصاخبة فى العالم العربى ولا امتناع أعضاء الوفد المصرى عن حضور حفل التوقيع.
لم يتردد بنزاهة القاضى أن يحسب لـ«السادات» أنه لم يفصل أحدا من أعضاء الوفد من وظيفته الدبلوماسية، رغم ما أثاره غيابهم الجماعى عن حفل التوقيع من ظلال وتساؤلات نالت منه فى الصحافة الأمريكية.
شخصية القاضى حكمت دوما أحكامه على وقائع التاريخ الذى شارك فيه.
تبدت تلك الحقيقة فى معركة استعادة طابا.
نفى عن نفسه رغم رئاسته للوفد المصرى أية بطولة فردية.
أعاد الفضل إلى الأسلوب الذى اتبع من عمل جماعى وتكامل كفاءات وخبرات.
كان مثيرا ومحزنا أنه لم يحظ بأى تكريم، لا هو ولا أعضاء الوفد، على الدور الذى لعبوه فى سنوات «مبارك».
فى مذكراته «صراع الدبلوماسية» سجل حزنه من أن «مبارك» تجاهل أبطال الحدث من مفاوضين مصريين عند رفع العلم فوق طابا حيث انتظروا، أو قيل لهم أن الرئيس سوف يكرمهم، فإذا به يشير إليهم من بعيد منشغلا بالحديث مع ثلاثة فنانين جرت دعوتهم للمناسبة.
أنه رجل يعرف ماذا يتوجب عليه أن يفعل؟.. ومتى يتعين عليه أن يغادر؟
لم تكن هناك مفاجأة فى طلبه عدم التجديد له أمينا عاما للجامعة العربية لخمس سنوات أخرى أسوة بأسلافه، معلنا أنه سوف يغادر منصبه عند نهاية ولايته الأولى فى يوليو (٢٠١٦).
فى قراره ضيق بالأحوال التى وصل إليها العالم العربى وعجز المنظمة القومية عن الاضطلاع بأية أدوار، تساعد فى وقف نزيف الدماء ومنع سيناريوهات الانهيار.
بحكم حدود اختصاصاته لم يكن بوسعه، ولا بوسع غيره، التصرف والمبادرة أو تغيير توجهات القرار العربى المشترك، أو الذى يقال عنه مشتركا!
بدا أمامه سيناريوهان رئيسيان لحركة الحوادث.
الأول: أن تفضى إلى توزيع جديد لموازين القوة والنفوذ فى الإقليم، بحيث يصعب أن تكون هناك بالأساس منظمة قومية تعبر عن عالم عربى متماسك تجمعه أهداف ومصالح مشتركة.
كان من غير المستبعد فى ذلك الوقت إنشاء منظمة إقليمية جديدة على أنقاض العالم العربى، أو دوله المنهكة واليائسة.
الثانى: أن تفضى حركة الحوادث إلى تمزيق فى خرائط المشرق العربى تمتد إلى دول أخرى على أسس طائفية وعرقية يصعب بعدها الحديث عن أى نظام.
فى السيناريوهين تقويض لكل ما هو عربى فى تقرير أى مستقبل.
لم يخف انزعاجه من كلا السيناريوهين فى حوار مطول بمنزل الأستاذ «محمد حسنين هيكل» على نيل الجيزة شارك فيه الزعيم اللبنانى «وليد جنبلاط»، وعدد من الوزراء المحسوبين على تياره أهمهم وزير الإعلام «غازى العريضى»، ونخبة من كبار الصحفيين المصريين.
هو رجل يتمتع بـ«الحس العملى العميق» و«الذكاء الحاد» ــ على ما وصفه صديق طفولته المفكر الراحل الدكتور «جلال أمين».
لعله استقرت فى أعماقه بأثر ذلك الحوار أنه يتعين عليه أن يغادر موقعا لا يستطيع أن يوقف نزيف العالم العربى.
فى محاولة جادة، لم يكتب لها النجاح، حاور عددا من المثقفين حول تجديد الجامعة العربية وإضفاء طابع ثقافى وشعبى عليها.
شارك فى ذلك الحوار صديقاه الحميمان «جلال أمين» و«جميل مطر» وبعض كبار معاونيه فى الجامعة العربية، وقد كنت حاضرا ومشاركا مقتنعا بجديته، لكن حقائق النظام العربى الرسمى حالت دون أى إصلاح، لكن يحسب له بأى حساب شرف المحاولة وشجاعة الاستقالة.