عودة الاحتلال بالطلب

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 1 أكتوبر 2014 - 7:45 ص بتوقيت القاهرة

لولا الخوف من انفلات الأمن وانتشار المسلحين متعددى الهوية مختلفى الشعار، وإن حرصوا بمجملهم على تأكيد التزامهم الشريعة وأصول الدين الحنيف، لامتلأت الشوارع بجموع المتظاهرين ترحيبا بالاستعمار الجديد الذى يهبط علينا من السماء عبر صواريخ الديمقراطية الفتاكة.

ولعله من حظ الأنظمة القائمة، التى تنافست على استدعاء صواريخ الديمقراطية وشاركت، ولو رمزيا، فى إطلاقها «على دولتين من دول الأشقاء العرب»، أن ممارسات المسلحين وسواء أكانوا دواعش أم نصراويين أم من تفرعاتهما، قد فاقت فى وحشيتها كل ما اعتمدته أجهزة مخابراتها،

ذلك أن حملة «تحرير» منطقة الهلال الخصيب أشرس بما لا يقاس من كل ما عرفت هذه المنطقة من ضروب القتل والتعذيب، وهى قد شملت تهديم القرى وتدمير أحياء كاملة من المدن العريقة.. ثم أنها «تقتل من فوق» ولا تتكبد أية خسائر، فضلا عن أنها تأتى بالطلب، بل بالرجاء (وقد نضيف: وبالتوسل!).

فالواقع أن الأنظمة العربية القائمة تتزاحم مع معارضيها على الترحيب، كما على التبرع بالمشاركة فى حروب التحرير الجوى الذى تقوده دول الاستعمار القديم تحت قيادة الإمبريالية الأمريكية.

لقد ضاقت الفروق بين الأنظمة ومعارضيها متعددى التوجه، وحمى وطيس التنافس على موقع صاحب الحظوة لدى السيد الأمريكى المفوض الآن بإعادة رسم حدود الدول فوق الخريطة المفتوحة أمام طيرانها الحربى بلا حدود.

سقطت أو أُسقطت معاهدة سايكس بيكو بالضربة القاضية، ولكن ليس نتيجة الزحف الوحدوى لأهل الأرض التى كانت أرضهم بلا حدود بين أبناء العائلة الواحدة... بل إن تعابير وكلمات مثل العروبة والقومية العربية ووحدة المصير، فضلا عن حلم الوحدة العربية، قد سحبت من التداول واعتبرت من مخلفات الماضى السحيق.. وها أن الطيران الحربى الحليف بالقيادة الأمريكية لم يجد لمثل هذه التعابير أى «وجود مادى محسوس» فى الجوّ الذى وجده مفتوحا أمام طياريه، بل إن تلك الطيارة الحربية العربية التى شاركت فى قصف بلاد الشام لم تأخذها أية عاطفة وهى تدك مناطق أهلها.

سقطت موروثات النضال الشعبى ضد مخلفات الاستعمار القديم، مثل معاهدة سايكس بيكو، أو وعد بلفور، أو مشروع ايزنهاور، أو حلف بغداد، أو معاهدة الدفاع المشترك، أو مشروع الشرق الأوسط الجديد.

تلك جميعا من مخلفات الاستعمار القديم.. أما الإمبريالية (أو الاستعمار الجديد) فلها خرائطها الجديدة التى تتبدى فوقها بعض الثوابت الحدود: إسرائيل فى الجنوب، وكردستان فى الشرق، وتركيا فى الشمال.. أما ما تبقى من الأرض التى حملت، ذات يوم، تسمية «الهلال الخصيب» أو «المشرق العربى»، فمتروك إلى ما بعد الانتهاء من الحرب على «داعش»، التى يقدر جنرالات البنتاغون أنها سوف تستغرق سنتين على الأقل.. وفى هذه الفترة الانتقالية قد يطرأ أو يستجد ما لا تعلمون.

•••

تسأل عن العراق فيأتيك الجواب صريحا: لم يعد ممكنا أن يعيش السنة والشيعة فى كيان سياسى موحد.. فليكن للشيعة إقليمهم وللسنة إقليمهم، كما للكرد إقليمهم الثابت الذى يكتسب أكثر فأكثر صورة «الدولة المستقلة» التى تحظى برعاية الشرق والغرب، يأخذ من بغداد ما يلزمه من حقوق الشريك فى ثروة الوطن، بمعزل عن دولة بغداد وحصص سائر الأقاليم.

وتسأل عن سوريا فيأتيك الجواب غامضا: لم يحدد أصحاب القرار بعد موقفهم من هذه الدولة، وإن كانوا قد قرروا مصير نظامها. هم يريدون إسقاط النظام، لكنهم لا يعرفون كيف يوزعون التركة على طوائفها. إنهم يدرسون أسباب فشل التجربة الفرنسية فى تقسيم سوريا إلى أربع دول، ولا يريدون إعادة إنتاج المشروع الفاشل، ثم إن موضوع الأقليات فيها يشغلهم أكثر مما فى العراق.. فالأقليات فى الكيان السورى، قومية ودينية، أكبر وأقوى من أن يتم ترحيلها أو إلغاؤها، ولكنها منتشرة فى مختلف الأنحاء مما يعقد عملية تجميعها فى «أقاليم»، كما فى الشمال العراقى، فضلا عن أنها صادقة فى وطنيتها، وهى قد رفضت قبل تسعين سنة مشروع تقسيم سوريا إلى أربع دول على قاعدة طائفية أو عنصرية.

•••

يغيب عن أى تقدير أو تحليل أو توقع ذكر الدول العربية الأخرى، سواء فى المشرق، وتحديدا دول مجلس التعاون الخليجى وصولا إلى اليمن، أو فى مصر وليبيا وسائر أنحاء المغرب العربى.

فأما مصر فتبدو مشغولة بأحوالها عن مشكلات محيطها، وإن اكتفت قيادتها باللجوء إلى «الموقف المبدئى» وبكلمات عامة ومبهمة، من دون أن يعنى ذلك أنها لا تتابع بقلق تحركات «داعش» وتمددها فى المشرق والمغرب.. وقيادتها تعرف أن لهذا التنظيم الإرهابى أتباعا أو مناصرين يستغلون فوضى السلاح فى ليبيا لكى يهربوا شحنات مؤثرة عبر السودان إلى سيناء، أو عبر الصحراء الغربية إلى الداخل المصرى، و«الكمون» فى انتظار اللحظة المؤاتية للتحرك.

ومع أن مصر ترى أن ما يحدث فى سوريا، أساسا، ومن حولها عموما، يؤثر على أمنها القومى، إلا انها تفضل أن تراقب وتنتظر جلاء فى الصورة.. ومن هنا غياب الموقف الحاد بعدائيته من النظام فى دمشق، إلا أنها على وجه العموم ليست جاهزة لأى دور خارج حدودها، اللهم إلا فى ليبيا التى ترى فى فوضاها المسلحة مصدرا للخطر على أمنها، ولكنها تحاول أن تصده بتحالفات مع قوى سياسية وعسكرية ليبية، من دون التورط عسكريا فى تلك البلاد البلا حدود والبلا نظام والتى يتوزع سكانها قليلو العدد على مساحة قارة متصلة بالعديد من أقطار افريقيا التى بلا دول.

وما يشغل مصر حاليا هو مشروع إعادة بناء الدولة، بمؤسساتها واقتصادها وطاقة الإنتاج فيها، وإعادة الأمن والهدوء لاستعادة الدخل الممتاز من السياحة.. ومن هنا إن مسئوليها مشغولون فى الداخل عما يجرى من حولها، وإن تابعوا التطورات فبعيون أمنية وليس بأى موقف سياسى محدد، وإن كانوا يصنفون «داعش» وما شاكلها من تنظيمات ترفع الشعار الإسلامى فى خانة «العدو»، وينصرفون إلى قتاله باسمه صريحا أو مموها فى سيناء. ولعل هذا الشعار الذى يثير حفيظة المسئولين فى القاهرة يظهر جليا عبر موقف القاهرة من «إسلاميى غزة»، مع معرفتها أنهم ليسوا من «داعش» أو معها، ولكن الشعار نفسه غير مقبول فى بر مصر وعند نظامها الجديد الذى خلع الإخوان عشية الاحتفال بالذكرى الأولى لاستيلائهم عليها.

وإذا كان النظام فى تونس يحاول تمويه الموقع القيادى للإخوان المسلمين فيه، تحت رقابة صارمة من الجزائر، فإن خطر «داعش» يمكن أن يتحول من عامل تهدئة إلى عامل تقارب إلى حد التطبيع بين ورثة الثورة فى الجزائر ووريث العرش العريق فى المغرب.

بالمقابل فإن الحدث اليمنى الذى أخرج الإسلاميين من الحكم فى اليمن قد استقبل بموقف ظاهره الهدوء فى السعودية وأقطار الخليج العربى، وإن كانوا قد وجهوا الاتهام إلى إيران بالوقوف وراء الحوثيين و«انقلابهم» الذى تم بسرعة وبتنظيم فعال، وقبل أن ينتبه «الخصوم» إلى جديته وتأثيراته المحتملة على مستقبل اليمن، وتحديدا مستقبل علاقاتها بدول الخليج عموما، وبالسعودية أولا وأساسا.

فى هذه الأثناء يعيش اللبنانيون قلقا مُمضَّا وهم يتابعون التطورات. فدولتهم بلا رئيس، وحكومتهم الائتلافية عاجزة عن القرار، وبعض «الإسلاميين الخطرين»، وهم خليط من «داعش» و«النصرة»، قد اتخذوا من بلدة عرسال التى تقع على حدود الحرب فى سوريا وعليها، ومن مجموعة من العسكريين الذين كانوا يقومون بواجبهم فيها، رهائن، وباشروا عملية ابتزاز مفتوح لهذا البلد المحاصر بالنار السورية شمالا وشرقا، وبالعدو الإسرائيلى جنوبا... وهو ابتزاز خطر فى بلد تشكل الطائفية فيه استثمارا سياسيا (وماليا) من الدرجة الأولى.

•••

تأتى هذه التطورات المؤثرة فى التاريخ وفى الجغرافيا، فى الأمن كما فى السياسة، فى الحال كما فى الاستقبال، بينما لا قدرة على قرار عربى موحد. حتى «داعش» لا توحّد الموقف العربى.

يكفى أن تستعيد المشهد الذى تطالعنا به شاشات الفضائيات على مدار الساعة: طائرات أمريكية وبريطانية وفرنسية، و«عربية» بطيارين وطيارات «عربية» تقصف أراضى دولتين عربيتين عريقتين، فتمحو الحدود الدولية ذات التاريخ الاستعمارى بينهما، ليس من أجل الوحدة أو الاتحاد، بل من أجل القضاء على الخطر «الإسلامي» الوافد، عبر تحالف لا تنفصم عراه مع العدو الإسرائيلى.

هى عودة للاحتلال... لكنها، هذه المرة، بالطلب الذى كاد يبلغ حدود الرجاء!

إنها الديمقراطية تُسقط من علٍ على الهلال الخصيب، إنها «الوحدة» تسقط جوا على البلدين التوأمين اللذين تقاربا ذات يوم إلى حد التوحد.. واللذين ظلا متباعدين حتى جاء الاحتلال من جديد «ليوحّدهما» تحت طائراته التى تجول فى سمائهما المشتركة بالطلب لتبعد عنهما خطر «داعش» وكأنها حصن الأمان وأداة التوحيد وراسمة الطريق إلى الغد الأفضل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved