عمرو موسى فى مرآة مذكراته

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 1 أكتوبر 2017 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

كعادة أسلافه من وزراء الخارجية المصريين سجل «عمرو موسى» شهادته على التاريخ الذى عاصره.

قيمة مثل هذه المذكرات أنها تساعد على إعادة اكتشاف ما غمض من تاريخ، وهو رجل لديه ما يقوله فقد ظل على رأس الدبلوماسية المصرية عشر سنوات كاملة، غير أن قنابل الدخان التى أثارتها المذكرات حجبت صلب شهادته، فلا جرى حولها حوار ولا أعدنا قراءة ما جرى خلف الستائر الكثيفة من صراعات القوة والنفوذ على المنطقة.

من بين قنابل الدخان ما رواه عن «جمال عبدالناصر» عكس ما هو مستقر بمئات الشهادات عن تقشفه وزهده فى الطعام ومغريات الحياة الأخرى.

لم يكن بوسع دبلوماسى شاب يعمل فى السفارة المصرية بسويسرا أن يتأكد إلى أين يذهب نوع معين من الطعام الخاص بـ«الريجيم» كلف بتسليمه لرجل ضخم الجثة كل ما نسبه إليه أنه يرى «عبدالناصر» أعظم رجل فى العالم.

كما لم يكن ممكنا أن يعرف أن مرض «السكرى» قد أصاب «عبدالناصر» عام (١٩٥٨) وأنه يخضع لنوع من العلاج فى هذا الوقت المبكر.

لو أن الأمر يخص «عبدالناصر» لكان قد تولاه السفير «فتحى الديب» بنفسه، وهو لم يكن سفيرًا عاديًا، فهو من أقرب رجال الرئيس ونائب رئيس المخابرات العامة المكلف بملف الشئون العربية، كان ظهوره فى أى مطار عربى يستنفر أجهزة المخابرات فى العالم بأن شيئًا جللًا قد يحدث، كانت مهمته الحقيقية فى برن متابعة تطورات الثورة الجزائرية من مركز أوروبى، وظلت تربطه حتى نهاية العمر صداقة عميقة مع زعيمها «أحمد بيللا».

ومن بين قنابل الدخان ما ذكره من أن مظاهرات (٩) و(١٠) يونيو (١٩٦٧) كان بها «ترتيب» مستندًا إلى أنه استمع، كما استمع كثيرون، يوم (٨) يونيو لأصوات انفجارات فى القاهرة قيل إنها لطائرات إسرائيلية تحلق وتقصف، ثم ثبت أنها طلقات مدفعية مصرية.

الحقيقة لم يكن ذلك من ضمن أى ترتيبات لخروج مظاهرات، العكس كان صحيحًا فقد استهدف منع أى ردات فعل شعبية متوقعة على تنحى «عبدالناصر» فى اليوم التالى بإثارة مشاعر الذعر والخوف من تدهور أمنى كبير فى العاصمة، وأثبتت تحقيقات رسمية أن وزير الحربية «شمس بدران» كان وراء ما جرى بأمل أن يتولى هو رئاسة الجمهورية دون أن يكون بوسع أحد أن يوقفه.

لم تكن مظاهرات يونيو «تمثيلية»، فهذا انتقاص من شرف الشعب المصرى فى رفض الهزيمة وعرض المقاومة.

القراءة السلبية لـ«يوليو» بدت ملمحا رئيسيا فى المذكرات، وقد استقطبت مشاعر غضب وردات فعل عكسية وتداخلت الصور، فهناك من طلب إنصاف التاريخ ودور «جمال عبدالناصر»، وهناك من طلب تصفية الحسابات مع «موسى» لأسباب أخرى لا علاقة لها بثورة «يوليو» من قريب أو بعيد.

من حق «عمرو موسى»، كما من حق غيره، أن تكون له قراءته الخاصة للتاريخ يسجل فيها مشاعره وانطباعاته، وأى مذكرات مرآة صاحبها.

«لا يوجد بداخلى شىء شخصى أو نفسى»، «تعاطفت مع يوليو باعتبارها تغييرًا أساسيًا قد حدث فى البلد»، «بكيت عند تنحى عبدالناصر ووفاته»، فهو زعيم «مهول» «كنت مغرمًا بشخصيته ومواقفه» و«البهاء الذى يحيط بدور مصر» حتى كانت هزيمة (١٩٦٧) التى «غيرت مواقف كثيرين فأصبحوا ناقمين بشكل عام على النظام كله».

الفكرة الأخيرة بالذات حكمت جانبًا كبيرًا من مذكراته.

هناك فارق بين «النقد» و«النقمة».

النقد طبيعى مهما بلغت حدته بعد هزيمة مروعة يتحمل «عبدالناصر» مسئوليتها السياسية ـ كما قال بنفسه فى خطاب التنحى.

بحسب وثائق غربية وإسرائيلية متواترة فإن الهدف الرئيسى من حرب (١٩٦٧) هو إجهاض المشروع الناصرى فى طلب التحرر الوطنى والتنمية، أن تكون مصر دولة قوية تقود عالمها العربى وتواجه إسرائيل.
بمعنى صريح النظام خذل مشروعه.

استنتاج «موسى» من أن خللا كبيرا فى أداء الدولة أفضى إلى الهزيمة صحيح، لكن أين كان الخلل بالضبط؟

هذا هو السؤال الذى تفترق عنده الطرق.

فى تقديره الخلل يشمل طريقة إدارة الدولة، وهذا يقين صحيح، «عبدالناصر» نفسه فى محاضر رسمية سجل انتقادات حادة للأسباب التى أفضت إلى الهزيمة من بينها تدخل الجيش فى السياسة، وغياب الاحتراف عنه وما أسماه «انحرافات المخابرات» و«الدولة داخل الدولة» و«مراكز القوة» داعيا إلى دولة المؤسسات ودولة القانون والمجتمع المفتوح.

غير أن «موسى» يكاد يدين العصر كله بكل ما أنجزه من تصنيع واسع غير مسبوق وتطور جوهرى فى حياة الفلاحين بقوانين الإصلاح الزراعى، فضلا عن التعليم الذى سمح التوسع فيه لأكبر حراك اجتماعى فى التاريخ المصرى كله، والصحة التى أصبحت متاحة لفقراء المصريين، والقوة الناعمة التى وصلت إلى آفاق لم تصلها من قبل.

إنكار حجم التحول الاجتماعى نوع من النقمة الذى يعترف أنها أصابته بعد الهزيمة، والنقمة تفضى ـ بالضرورة ـ إلى سُحب دخان تحجب الحقيقة.

أعادت مصر بناء القوات المسلحة من تحت الصفر، وتقدمت نخبة من القيادات العسكرية الكفؤة مشاهد القتال، خاضت حرب استنزاف طويلة، وكانت تلك بروفة حرب «أكتوبر».

أهم سؤال هنا: لماذا يراد ـ حتى الآن ـ تكريس الهزيمة فى الوجدان العام رغم النصر العسكرى الذى جرى فى «أكتوبر»؟
أى إجابة على قدر من الجدية لا بد أن تتطرق إلى الانقلابات الاستراتيجية والاجتماعية التى جرت فى التوجهات والسياسات.

رغم تقديره للدور الذى لعبه الرئيس «أنور السادات» فى حرب «أكتوبر» إلا أنه «لم يقترن بإصلاح واع وشامل للأمور فى مصر».

أى إصلاح يقصده بالنظر إلى طبيعة النظام الجديد وخياراته الاجتماعية فى تمكين طبقة رأسمالية طفيلية من المقدرات الاقتصادية، والطريقة التى أدار بها السياسة الخارجية المصرية بعد الحرب، بما أفضى إلى تهميش الدور المصرى فى عالمه العربى وداخل إفريقيا والعالم الثالث كله عكس ما تبنته «يوليو».

لم يكونا نظاما واحدا حتى لو استخدم كلاهما أدوات الدولة لفرض هيمنته.

المذكرات انطوت على نوع من الإعجاب بـ«السادات»، من حيث توجهاته العامة مع سخرية من أساليبه فى الحكم، فهو «باجس» و«عمدة» والبلد «مصطبة».

ما هو مهم ـ بالنسبة لمذكرات وزير خارجية مخضرم وكفء اكتسب شعبية كبيرة لا يمكن إنكارها ـ حقيقة موقفه من «عملية السلام».

القصص تتضارب فى رسائلها على نحو يستدعى إضاءات وإيضاحات.

كان رأيه عام (١٩٧٧)، الذى أبداه للسفير «محمد إسماعيل» نجل المشير «أحمد إسماعيل على» عندما كانا يعملان معا فى مرحلة الشباب ضمن وفد مصر فى الأمم المتحدة، أنه قد آن الأوان لاتصال مباشر مع إسرائيل، «دعونا نتفاوض بشأن أراضينا مباشرة مع الإسرائيليين»، واعتبر ذلك نوعا من توارد الخواطر مع «السادات».

وهو يعنى مباشرة دعم «الحلول الانفرادية» واعتبارها خيارا لم يكن هناك غيره دون أن يراجع تبعات مثل هذا الرهان الذى عاناه كوزير للخارجية فيما بعد.

لم يكن معجبا ـ كما سجل مسهبا ـ بطريقة إدارة «السادات» للخارجية المصرية بالمقارنة بطريقة «عبدالناصر» المؤسسية المنضبطة والكفؤة، لكنه بدا ميالا إلى الأول من حيث الخيارات العامة، رغم بعض التحفظات التى لم يتوسع فيها.
ما هو موثق ولامع فى المذكرات ضد خيار الحل المنفرد.

لقد صنع صورته على مواجهات إعلامية ودبلوماسية مع المسئولين الإسرائيليين، اصطدم مع رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق «إسحاق شامير» عندما قال الأخير بـ«إنه سيتفاوض ويتفاوض ويبقى على التفاوض لمدة عشرة أعوام ولن يسلم بشىء ولن يعطى الفلسطينيين شيئا»، ودخل فى مواجهات أخرى مماثلة وبدا مقتنعا أنه لا فرق بين الصقور والحمائم فى إسرائيل، فالأهداف واحدة والوسائل تختلف، ولم يعول على اتفاق «أوسلو» لعودة الحقوق الفلسطينية، لاحق البرنامج النووى الإسرائيلى ورفض الهرولة إلى الشرق أوسطية، كل ذلك منشور وموثق فى شهادته التى حجبتها قنابل الدخان.

بنص كلامه «مقاربة القضية الفلسطينية من منظور حفظ أمن إسرائيل أكبر خطر يهدد الأمن القومى المصرى» ـ هذه وجهة نظر صحيحة تحتاج مصر أن تتأملها الآن، وكانت من ضمن أسباب خلافه مع الرئيس «حسنى مبارك» وخروجه من الخارجية.

المذكرات تستحق المراجعة بجدية والنقد بموضوعية حتى نستبين الحقيقة كاملة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved