«جنة وأخواتها»

هنا أبوالغار
هنا أبوالغار

آخر تحديث: الثلاثاء 1 أكتوبر 2019 - 11:45 م بتوقيت القاهرة

تابع المجتمع المصرى برعب ما حدث فى قضية الطفلة «جنة» والتى توفاها الله إثر «غرغرينة» فى الرجل وتسمم فى الدم وتوقف لوظائف الكلى وعضلة القلب الأسبوع الماضى. جنة لم يصبها مرض عضال وإنما أصابها تعذيب لأسابيع وغالبا شهور من أحد أعضاء الأسرة المسئولين عن حمايتها (التحقيقات ما زالت تجرى مع الجدة للأم والخال وآخرين).
القصة كما قرأنا فى الجرائد أن جنة وأختها تقيمان مع جدتهما وجدهما للأم وذلك إثر طلاق الوالدين، وأن الأم مقيمة معهما وكذلك الخال. الأسرة فقيرة فى المنصورة، والطلاق حدث إثر عنف بدنى متكرر وقع على الأم من الأب وتسبب فى انفصال كامل بالشبكية (بحسب تحريات الجرائد، وأن الأب لم يكن يدفع نفقة البنتين).
منذ ما يقرب من أسبوع حضرت جنة إلى مستشفى فى المنصورة حيث تم تشخيص حالتها المذكورة وتبين وجود آثار حروق حديثة وقديمة فى أماكن متفرقة من جسدها خصوصا منطقة الحوض والأعضاء التناسلية وهو ما أدى إلى تسمم بالدم والغرغرينة وما تلاه، كما أن هناك شك فى تعرض الطفلة للاغتصاب.
ما زالت التحريات جارية، وما زال المجتمع فى حالة صدمة من بشاعة الحدث وعدم تصديق لوقوعه فى مجتمعنا الذى انغرس فى قناعتنا أنه مجتمع رحيم وإنسانى فتأتى «جنة» لتثبت لنا أن هذا غير صحيح، مجتمعنا مثل كل مجتمعات العالم به الخير والشر، والعنف الأسرى فى مصر ضد المرأة والطفل من أعلى معدلات العنف فى العالم وفى آخر بحث ميدانى فى ٢٠١٦ قام به المجلس القومى للطفولة والأمومة بالتعاون مع اليونيسيف على ٣ محافظات تبين أن نسبة العنف البدنى ضد الطفل تتعدى الـ٩٢ ٪ من الأسر المصرية. ومثل باقى العالم فالدراسات تشير إلى أن العنف الجنسى يحدث فى الغالبية العظمى من الأحوال من شخص منوط بحماية الطفل أو الطفلة (أب، خال، عم، جد، مدرس.. إلخ).
***
عندما سئلت الجدة عن سبب حرق الفتاة ردت لأنها عندها تبول لا إرادى، وهنا أحب أن ألفت نظر القارئ أن وضع سكين على النار حتى ترتفع حرارته جدا ثم لسع جلد الطفل به فى مناطق الفخذ والرجل كلما تبول على نفسه هو أسلوب متبع فى مناطق كثيرة جدا من مصر وهو أمر يعتبر من «التراث» ولا أظن أن الجدة كانت ستواجه بسببه أى محاسبة قانونية أو حتى لوما من المجتمع المحيط لولا أن الأمر تطور إلى قطع الساق بسبب الغرغرينة.
المؤكد أنه لا يمكن أن تكون نسبة ٩٢٪ من الأسر المصرية مهملة أو كارهة لأبنائها أو حتى بمصطلح بسيط «شريرة»، وإنما المشكلة تكمن فى أننا مجتمع يفترض أن الأبوين بطبيعتهما سويين ويملكان أدوات التربية السليمة، هذا المجتمع أيضا يؤمن بأن «الطفل ملك لوالديه»، وأنه مهما فعل الآباء فى أبنائهم من عنف فهم يفعلونه «بهدف التربية»، وأن هناك أجيالا «زى الفل» تربت بالعنف وهو ما صنع منهم «رجالا ونساء محترمين». أى مجتمع يجب أن يتحمل مسئولية أبنائه جميعا، كون طفل ولد فى أسرة معنفة، أو أسرة مفككة، أو يعيش مع أب أو أم مريضين جسديا أو نفسيا وبالتالى غير قادرين على حمايته أو يشكلان خطورة عليه، فهذا ليس ذنب الطفل، وعلى المجتمع أن يعى أن عدم تحمل مسئولية أبنائه ينتج عنه مشكلات كبيرة يدفع ثمنها الجيل القادم (عشرات الآلاف من الأطفال بلا مأوى فى شوارع المدن الكبرى، نسب عالية من عمالة الأطفال والتسرب من التعليم التى تؤثر على الاقتصاد القومى، ذكريات العنف الجسدى والجنسى والنفسى وما ينتج عنهما من ميل للعنف والإجرام والعدوان فى البالغين).
***
دعونا نتخيل «جنة» فى مجتمع يتحمل مسئوليتها: أولا: كان سيحدث استهجان شديد من الأسرة والمجتمع للعنف الواقع على الأم يجعل الأب يتردد كثيرا فى تكرار فعل العنف ضد زوجته، حيث إنه يقلل من شأنه فى محيطه بدلا من الوضع الحالى الذى ما زال يجعل منه السواد الأكبر من مجتمعنا وبكل فخر «رجل عارف يشكم مراته»، ثانيا: إذا ما كان استمر فى العنف وتسبب فى انفصال شبكى للأم كما تدعى فى التحريات كانت الإجراءات ستكون ميسرة ومساندة للأم تضمن لها حقها فى عقاب الأب (بالسجن إذا ما طبقنا القانون) وإلزامه بالعلاج النفسى من نوبات الغضب حتى يعود إلى أسرته أو على الأقل بناته أكثر اتزانا (حيث إن الطلاق يفصل بين الزوجين لكنه لا يفصل بين الأب وأولاده)، ثالثا: كانت محكمة الأسرة التى حكمت للأم بالنفقة سيكون فى قدرتها عن طريق الجهات الضبطية أن تجبره على دفعها وبالتالى تضمن الطفلتان أن هذا الرجل الذى قرر أن ينجبهما مسئول عن إعالتهما فنضمن لهما حياة كريمة فى ظل انفصال الوالدين ونضمن أن يفكر غيره جيدا فى قرار الإنجاب ويحسبه. رابعا: كانت الأم عندما سكنت هى والطفلتان فى منزل والدتها فتقوم الجدة بتعذيب البنتين وعلم الأب والعمة بذلك (بحسب أقوالهم فى التحقيقات) ويسمع صراخهما الجيران سيقوم أحد هؤلاء بالإبلاغ عن الواقعة، أولا لأن المجتمع سيكون واعيا للمسئولية الواقعة على كل فرد فى حماية الطفل فيصبح عدم حمايتهم فعلا «غير أخلاقى» وثانيا لأن واجبهم أمام القانون فى الإبلاغ واضح حيث لابد أن يكون هناك عقاب لمن يتستر على «جريمة» العنف ضد الأطفال. خامسا: سيكون المبلغ عن الجريمة على دراية برقم التليفون الذى يتصل به لنجدتهم وهو رقم ١٦٠٠٠ الخاص بخط نجدة الطفل فى المجلس القومى للطفولة والأمومة وهو نظام قائم ويعمل ويجب التوسع فى استخدامه، وقد تم الإعلان عنه لفترة من الزمن لكن كان الإعلان بمثابة رجاء للمجتمع أن يتفاعل معه فى حين أن المطلوب هو إلزام الشهود بالإبلاغ بالضبط مثل أى جريمة أخرى. عند وصول البلاغ تتحرك لجنة من خط النجدة يكون لها قوة قانونية للبحث والتحرى ورفع توصية عاجلة إذا لزم الأمر بإبعاد الأطفال عن الأسرة إلى أن يبت القانون فى أمرهما، حيث أنها حاليا تفتقد إلى آليات كثيرة تحتاج إليها لحماية كل طفل تذهب لتتحرى أمره خصوصا فى الحالات شديدة الخطورة والإجرام.
***
الدستور المصرى والذى صوت المصريين له بنعم بنسبة تفوق الـ٩٠ ٪ والذى به مادة لحماية الطفل من أفضل المواد التى كتبت فى أى دستور مصرى سابق، يكفل للطفل جميع حقوقه من مسكن ومأكل وتعليم وصحة، لكنه أيضا يذكر الحماية والسلامة البدنية والنفسية. كما أن قانون الطفل المصرى لعام ٢٠٠٨ به حل لآلية تدخل المجتمع لحماية مثل هؤلاء الأطفال (مع مراعاة أن أفضل مكان للطفل هو حضن والديه إذا ما كانا أمينين عليه)، هذا الحل يتمثل فى «لجان الحماية» والتى طرحها القانون ولم تفعل إلا أخيرا وفى مراكز قليلة جدا، فالقانون يوصى بتشكيل لجنة تتكون من ممثلى مؤسسات الدولة المعنية (القاضى، ضابط الشرطة، المدرس، الطبيب، ممثلين عن المجتمع المدنى.. إلخ) يكونون من سكان المركز الجغرافى ولهم ثقل مجتمعى، هؤلاء يبتون فى الحالات التى تطرح عليهم ويكون فيها خوف على سلامة الطفل ولديهم سلطة تسمح لهم بعزل الطفل عن أبويه إلى أن تتحسن أوضاع الأسرة ويتوفر مكان آمن للطفل أو الطفلة مع أحد أفرادها أو يبت القضاء فى أمر الطفلة.
إذا استمر كل منا فى التغاضى عما يراه يوميا من عمل أطفال الفقراء فى بيوت الأهل والجيران كخادمات أو فى المصانع أو الورش، وطالما أننا نمر على أم أو أب يضربون ابنهما أو بنتهما فى الشارع دون أن ننتفض، وطالما أننا نسمع أن ابن البواب تسرب من التعليم ليساعد والده أو بنت البواب تم تسنينها فى الصحة وتزويجها فى سن الطفولة، طالما أننا نسمع خناقة الجيران وصراخ الأطفال وهم فى ألم ولا نتدخل، طالما أن كل هذا يحدث من حولنا دون أن ننتفض ونفعل أكثر من مجرد التعبير عن استيائنا، فإن دم «جنة» على أيدينا جميعا وسنحاسب عليه لا محالة، فجنة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، جنة هى المرآة التى أظهرت عورتنا كمجتمع وهى الآن تعطينا فرصة لنسترها، فإما سترناها وإما اخترنا أن نتجاهل عرينا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved