«الهربة».. فيلم جرىء يكشف صراع الفكر والجسد بين متطرف وفتاة ليل

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: الجمعة 1 أكتوبر 2021 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

يشكل فيلم «الهربة»، للمخرج التونسى غازى الزغبانى محطة فارقة فى السينما التى تناولت قضايا الإرهاب والتطرف على الشاشة، ويعود ذلك إلى جرأته ليس فقط فى الطرح والفكرة والغوص فى منطقة شائكة، ولكن أيضا فى طبيعة التناول والمعالجة وأسلوب السرد والصورة الذهنية التى ستصاحب المتلقى عقب ترك صالة العرض، وهى تحمل حالة الأرق الخاصة التى عاشها مع طرفى المعادلة السينمائية التى جسدها الفيلم وهما عالمان لـ«متطرف» و«فتاة ليل» وجسدهما نادية بوستة وغازى الزغبانى، مخرج وكاتب الفيلم نفسه ومشاركة محمد قريع ورانية القابسى.
العمل المستوحى من رواية الكاتب حسن الميلى الناطقة باللغة الفرنسية «العاهرة المثقفة»، يعد أول فيلم سينمائى طويل للزغبانى كان فى الأصل مسرحية، عمل عليها فى عام 2018، ولاقت إقبالا جماهيريا واسعا لما تحمله من جرأة فى الطرح.
يروى «الهربة» رحلة متطرف دينى تونسى يدعى «محسن» متهم بجرائم متعلقة بالإرهاب يهرب من الشرطة وسط شوارع المدينة العتيقة ليجد نفسه أمام بيت دعارة؛ حيث يلجأ إلى غرفة فتاة ليل تدعى «نرجس»، ويتوسل إليها لإخفائه فتستجيب لطلبه كى لا تتورط مع الشرطة وتساعده فى التعامل مع الموقف على الرغم من أفكارهما المتضاربة.
وجد «محسن»، هذا الشاب المتخرج حديثا من الجامعة بعد دراسة فى المجال الإعلامى، نفسه مرغما على تحمل مجموعة من المفارقات بين أفكاره الدينية المتعصبة والتحرر المفرط من جانب نرجس ورفقائها، فتضعه فى مواجهة بين أفكاره ومواقفه وغرائزه ومقاومته لإغراءات هذه السيدة الجميلة، فيقرر أن يختبئ تحت السرير لمدة ساعات ليتجنب إغوائها له، لكنه لم يستطع مقاومة شهوات الجسد واستجاب فى النهاية لرغباته الجنسية لتنشأ قصة حب بينهما بنهاية المطاف.
نجح المخرج عبر سيناريو محكم وواعٍ فى حصر المتفرج فى الفضاء الضيق المغلق، الذى دارت به كل الأحداث وهو غرفة نرجس، ولم يمل المتفرج من تكرار المشاهد، نظرا لاختلاف الزوايا وكثافة المعانى داخل الكادر وتنوع الإضاءة الموحية بعوالم الأبطال الضيقة والمنغلقة على ذاتها، والاعتماد على موسيقى تصويرية موحية لها دلالتها لاكتمال المشهد السينمائى، وهو ما خلق حالة من التشويق.
حوار الفيلم ذهب بنا إلى حالة مغايرة فى شبه رسائل عدة تدعو للتأمل، أولها أن فتاة الليل ليست بالضرورة امرأة جاهلة، وأنها قد تكون امرأة مثقفة ومنفتحة على الآخر، مهما كان نوعه، حتى مع المتشدد الدينى الذى يحرم عملها إلى درجة التكفير، بل إنها تجعله يتصالح مع ذاته ويعود إلى تركيبته الأولى، وهى حبه للحياة المتجسدة فى المرأة، بعد أحد أروع المشاهد التى أحضرت فيها ماكينة للحلاقة وجعلته يحيل زقنه بيده، ليرى نفسه على طبيعتها من جديد قبل أن يخرج إلى الشارع.
اعتمد كاتب السيناريو والمخرج على العديد من المواقف الساخرة ليكسر حالة الرتابة والجمود؛ حيث بدأ الحكاية بمشهد بين محسن وهو يقول لنرجس وهو يرتجف أمام دهشتها «أرجوكِ، اسمحى لى أن أختبئ هنا، فالشرطة تطاردنى». عندما وجد نفسه فى غرفة «نرجس»، لتنطلق من بعدها علاقة غريبة بين شاب متشدد وفتاة غير سوية.
موقف لم يكن ليخطر يوما ببال بطلنا المنخرط فى تيار التشدد الهارب ملاحقة رجال الأمن، الصُدفة وحدها ساقته إلى مكان كهذا ليجد نفسه يتسوّل رحمة امرأةٍ سلكت دروب الخطيئة.
اختار «محسن» الحوار مع «نرجس» على مضض على أمل أن يرحل رجال الشرطة ويتمكن من الهرب مجددا، بينما هو فى غرفة نرجس، عليه أن يغضّ البصر متجاهلا جمالها وعالمها وهى تبدو بلباسها الخفيف وعينيها الجريئتين حوارها مع أحد الزبائن، لينطلق حوار غريب وذكى بين عالمين متضادين.
حاول المخرج غازى الزغبانى أن يترك للشخصيتين الرئيسيتين الحرية فى أن تُطلقا العنان لأفكارهما المتناقضة، وتحاول كل منهما أن تجرّ الأخرى نحوها. كانت «نرجس»، تلوم «محسن» على النهج الذى اختاره، بل تستهتر به، فى حين كان هو يدعوها إلى أن تتخلى عن سلوكها غير السوى.
مرت الليلة صعبة على «محسن» الذى كان يتضوّر جوعا رافضا ما قدمته له هذه المرأة من طعام وهو تفاحة وزجاجة ماء ولكن ذلك اختلف لاحقا، واختلف موقف محسن فتحول ليكون على وئام وتواصل وحديث حميمى مع نرجس، واستمع إليها وتأثر بها، وهى أيضا فعلت.
غادر «محسن» غرفة «نرجس» بعد أن غير الكثير من أفكاره حاملا معه تردده، تاركا وراءه «صاحبة الغرفة» حائرة وسط أسئلتها.
وجددت نادية بوستة دورها بوعى شديد واحتوت الدور المركب منذ اللحظة الأولى لا تستحق جائزة أفضل ممثلة بمهرجان الإسكندرية.
الفيلم دون شك سيفتح نقاشات طويلة وجدلا اعتبره مخرج وبطل الفيلم غازى الزغبانى، جدلا صحّيا.
وقال الزغبانى إنه حاول أن يجعل المشاهدين يستمعون إلى أفكار المتشدد وصاحبة السلوك غير السوى وأن يجادلوهما بالحجج مؤكدا أن دور السينما لا يقتصر على الترفيه وإنما إثارة الجدل المجتمعى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved