قص الشعر ثورة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 1 أكتوبر 2022 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

أثار موت الشابة الكردية الإيرانية، مهسا أمينى، التى اعتقلتها دورية شرطة الإرشاد (أو الأخلاق) فى الثالث عشر من سبتمبر الماضى بطهران، موجة غضب فى جميع أنحاء الجمهورية الإسلامية، إذ اندلعت المظاهرات فى 30 محافظة إيرانية من أصل 31، وعم البلاد لأول مرة شعار «المرأة، الحياة، الحرية». وبعد قطع خدمة الإنترنت ظهر نداء «صداى ما باشيد» أى «كونوا صوتنا».
كانت الفتاة العشرينية قد لقت حتفها فى محبسها بعد ثلاثة أيام فقط من القبض عليها وهى فى طريقها لزيارة بعض أفراد العائلة، بتهمة «الحجاب غير اللائق» أى يخالف الشكل الذى تفرضه السلطات على المرأة منذ نهاية سبعينيات القرن الفائت.
• • •
رأينا صور النساء الإيرانيات، حاسرات الرءوس فى الشوارع، يقمن بقص خصلات من شعرهن، اعتراضا على مصير الصبية الكردية، وحزنا على ما آلت إليه الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ورأينا نساء أخريات حول العالم يقمن بالفعل نفسه علنا تضامنا مع مثيلاتهن فى إيران، فلطالما استخدم قص الشعر للدلالة على الحزن والزهد فى الحياة أو للاعتراض على شىء. وهو فعل يحمل رمزية عالية تعبر به المرأة أمام الناس من خلال تخليها عن «تاج رأسها» عن مطالبتها بالثأر والقصاص.
عُرِفت هذه العادة القديمة فى مجتمعات مثل بلاد الرافدين ومصر وفارس والجزيرة العربية واليمن، كما رأينا على مدار التاريخ كيف جرت ممارسات شبيهة فى الحضارات الهندية واليونانية. على سبيل المثال، وهبت النساء الهنديات ضفائرهن الطويلة، رمز العفة والطهارة والخصوبة، للآلهة كى تستجيب لأمنياتهن، أما فى اليونان القديمة كانت المتزوجات حديثا يقدمن ضفائرهن أيضا للآلهة كى تساعدهن على الإنجاب. وفى مصر القديمة، قامت ابنة إخناتون بقص شعرها حزنا وغضبا بعد مرض والدها الفرعون وخلافه مع الكهنة واندلاع العنف.
وهو المعنى الذى استعارته حفيداتها من الشابات المصريات عام 2013 للتنديد بالتحرش اللائى تعرضن له خلال الاستفتاء على مشروع الدستور. وبعد ذلك بحوالى عام، حلقت بعض النساء الإيرانيات شعرهن اعتراضا على فرض الحجاب عليهن، ووضعن صورهن على صفحة «حريتى المسترقة» التى أطلقتها على فيسبوك الصحفية الإيرانية المقيمة فى نيويورك، معصومة أو «مسيح» على نجاد.
• • •
روايات وحكايات متعددة تأتينا من جميع أرجاء المعمورة تعتمد على رمزية الشعر العالية ودلالاته الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق برفض العنصرية والمطالبة بالحقوق، فلا يمكن اختزال النساء فى شعر ناعم طويل تهوى الجدات تمشيطه للصغيرات ونثر خصلاته بزهو ونشوة، ويصف رحيقه شعراء مثل حافظ الشيرازى والمراكشى ويتغنون بعطره، ثم تُقمع البالغات بسببه ويلاحقهن الأمن لأنهن تركوه على سجيته.
قالت مصممة الأزياء الفرنسية كوكو شانيل يوما: «المرأة التى تقص شعرها على وشك أن تغير حياتها»، وهو ما لاحظناه بالفعل فى منتصف القرن الفائت، خاصة حقبة الستينيات، حين ظهرت موضة «الغُلامة» أو قص الشعر قصير جدا (à la garçonne)، وهو ما ينطبق على جيل جديد من النساء الإيرانيات المتعلمات اللائى لا يرغبن فى الاستمرار على النحو السابق، وقد ينجحن فى تحقيق انطلاقة جديدة واستعادة السيطرة على حياتهن، إذ تشكل النساء الإيرانيات نسبة 65% من طلبة الجامعات وفقا للإحصاءات الرسمية، إلا أنهن ممنوعات من ممارسة العديد من المهن.
• • •
تطور المجتمع الإيرانى الذى نجح فى محو الأمية بين النساء والرجال، وتصل خدمة الإنترنت فيه إلى 70% من السكان، وانتقل معظم مواطنيه للإقامة فى المدن، يرجح ألا تظل الأوضاع فيه كما هى لمدة طويلة، هناك مراجعات ذاتية يجب أن تتم لمواكبة مشوار الباحثين «عن النفس الضائع»، وهو ما لم يحدث منذ وصول إبراهيم رئيسى للحكم فى أغسطس 2021، الذى ينتمى لحزب «رجال الدين المقاتلين». بالنظر إلى مسألة كتنظيم النسل مثلا يتضح جليا أن فرض القوانين من أعلى دون نقاش مجتمعى وإقناع لا يجدى كثيرا، فبعد الحرب العراقية الإيرانية (من 1980 إلى 1988) زاد عدد السكان حوالى 15 مليون نسمة، وفرضت الدولة إجراءات صارمة وأطلقت حملات رسمية لتنظيم الأسرة، ونجحت بالفعل فى ذلك، بل انخفضت نسبة المواليد عن المعدل المطلوب، ما أزعج السلطات التى شارعت باتخاذ إجراءات عكسية، لكن النساء لم يقبلن فعليا بتغير السياسات وبالتالى استمر انخفاض المواليد، كما ستستمر على الأغلب فيديوهات قص شعر النساء وتعليقات فنانات مثل المغنية دنيا داردسان، 24 سنة، التى صرحت قائلة: «قمت بقص شعرى أملا فى أن يأتى يوم (...) تتنفس فيه نساء بلادى وتعيش بحرية». كلمات تذكرنا بمسيرة مغنيات سابقات وناشطات فى مجال الحقوق المدنية الأمريكية مثل نينا سيمون التى حاربت العنصرية من خلال أعمالها وقصة شعرها الأفريقية، واعتبرت أن الحرية هى ألا تخاف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved