«صباح 19 أغسطس».. من الحلم إلى الكابوس!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 1 أكتوبر 2022 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

ذكرتنى هذه الرواية المهمة بوقائع وأحداثٍ لا تنسى، بتفكك قوة عظمى فى التسعينيات، وبتجليات هذا التفكك فى القاهرة.
ذات يوم، رافقتُ زميلى فى مجلة «أكتوبر»، لكى يكتب موضوعًا عن «سوق روسيا» فى القاهرة، ذهبنا معًا إلى فندق معروف فى الدقى، وانتظرنا أمامه، حتى خرج بعض الرجال والنساء، من السياح الروس، كل منهم يحمل معه شنطة، يتلفتون حولهم باحتراس، يفتحون الشنط، ثم يبيعون ما لديهم من كل الأصناف، من الجوارب والملابس، إلى العطور وأدوات التجميل الرخيصة، نظير جنيهات قليلة، عرف المصريون الحكاية، فصاروا يذهبون إليهم، وأطلقوا على الساحة أمام الفندق اسم «سوق روسيا».
لم يكن هؤلاء السياح يعرفون كلمة إنجليزية واحدة، ولكن سرعان ما عرف المصراوية بعض المفردات الروسية الخاصة بالأرقام، وباستخدام لغة الإشارة، كانت تجليات تفكك الاتحاد السوفيتى، وسقوط الحلم الشيوعى، تتجسد أمامى فى صورة تجار شنطة يبيعون كل ما يمتلكون.
وهذه الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان «صباح 19 أغسطس»، لمؤلفتها ضحى عاصى، من أفضل وأبلغ ما قرأت عن لحظات سقوط الحلم وتحوله إلى كابوس، وعبر فترة زمنية طويلة، نتابع فيها حكاية امرأة من أم روسية وأب مصرى، طاردتها الخيبات من موسكو إلى القاهرة والمنيا، من بداية عصر جورباتشوف فى الثمانينيات، إلى الثورة المصرية على حكم الإخوان فى 2013.
كاملة بطلة الرواية، الروسية المصرية، وزوجها الشيشانى رسلان، يمثلان جيل الصدمة، وعنوان الرواية «صباح 19 أغسطس» هو تاريخ يوم الانقلاب الفاشل على جورباتشوف فى العام 1991، وكان ذلك مقدمة للتفكك الرسمى للاتحاد السوفيتى، وإن بدأت ملامح نهاية الحلم بالإعلان عن سياسة البيريسترويكا، ولكن كاملة تغيرت نهائيًّا بعد يوم الإنقلاب، والذى تصف الرواية بعض وقائعه الدامية.
مصائر وأقدار كاملة ورسلان هما محور الرواية، ونجاح ضحى العاصى ليس فقط فى دقة تفاصيل فترة ما قبل السقوط وما بعده، ولكن أيضا فى الانتقال مع كاملة من مجتمع سوفيتى مأزوم بعد التفكك، إلى المجتمع المصرى المضطرب فى أعقاب ثورة يناير، وفى تقاطع مصائر كاملة ورسلان فى البلدين، كما يبدو النجاح أيضًا فى تلك المراوحة الذكية بين دور الظروف فى خيبات الشخصيتين، ومسئولية كاملة ورسلان عن تلك المأساة، إنهما ضحايا ومذنبون فى وقتٍ واحد، قهرتهما الظروف، ولكنهما اختارا أيضا بشكلٍ خاطئ وكارثى، مثل الأبطال التراجيديين، وسيظل مصير ابنهما صادق مفتوحًا، يمتلك هذا الشاب حلمًا وأغنية، يختار أن يعيش فى مصر، ولكنه لا يعرف الكثير عن أسرار الماضى.
فى زمن الاتحاد السوفيتى لوحة عجيبة، تبدأ بحكاية حب بين طالبة الطب كاملة وزميلها رسلان، بأيام المدينة الجامعية، بأمسيات أغانى الروك المسروقة، عصر الرومانسية والبراءة، الذى ينتهى بذهاب رسلان ليحارب فى أفغانستان، ثم بتفكك الوطن، والقتال من أجل رغيف خبز، وبيع كاملة لكل ما تملك، بما فى ذلك نياشين جدها، بطل الحرب العالمية الثانية.
فى مصر لوحة أعجب، كاملة تتحول إلى صاحبة شركة سياحة، بل تصبح إمبراطورة شرم الشيخ، تقسم ألا تصبح فقيرة، دينها الدولار، والغاية تبرر الوسيلة، تشرب وتغامر وتصارع، ولكنها تفتقد الحب، حكاية حب قديمة مع عمر ابن عمتها فى المنيا لا تستطيع أن تنقذها، ورسلان يغير حياتها من جديد، ثورة فى القاهرة، وكابوس توقف السياحة، ربع قرن من هذا المزيج المؤلم من تفكك المجتمعات، وتفكك الذات، وانكسار القلب.
كل شىء يتغير بلا هوادة، حتى المدن والأماكن تغيرت أسماؤها بعد تفكك الاتحاد السوفيتى، والأفكار الكبرى والثورات تترجم هنا إلى وقائع إنسانية بسيطة ومؤثرة، الفروق كبيرة بين الأجيال، بين جد كاملة الصامد أمام حصار لينينجراد، وبين جيل كاملة ورسلان الذى لم يستطع الصمود، والذى عاش شتاتًا واغترابًا لا يمكن تخيله، شخصيات كثيرة أخرى تتعرض لاختبار تبدل الأحوال، عمر مثلًا يعانى من مثاليته ورومانسيته، سواء فى عمله كمحامٍ، أو فى حبه لكاملة، لم يحقق شيئًا سوى إنجاب أطفال جدد، وحكايته مع كاملة، تبتر فجأة داخل الرواية، مع أنها أمله الأخير، ويمكن أن يدفع حياته فى سبيل أن يستعيدها من جديد، عمر هو المعادل المصرى لمأزق ضياع الحلم والمعنى.
أحببتُ كثيرًا ذكاء معالجة الفكرة رغم صعوبتها، وبراعة المزج بين خصوصية كل مجتمع، والمشتركات الإنسانية، بحيث يمكن قراءة النص سياسيًّا كوثيقة عن تغيرات روسية ومصرية عاصفة، بنفس الدرجة التى يمكن أن يقرأ فيها باعتباره حكاية عن أحلام الإنسان المجهضة، عن اختياراته الخاطئة، وعن أقداره الصعبة، وبحثه العبثى عن السعادة.
فى مستوى آخر ضمنى، فإن المعنى الأهم هو أن السياسة والاقتصاد، ومفاهيم مثل الأيديولوجية والثورة، ليست مجرد نظريات تدرس فى الكتب، ولكن نجاحها الأهم فى تفاصيل الحياة الصغيرة، فى جعل حياة الإنسان أفضل، وإلا فإنها سرعان ما تتحول إلى عبارات إنشائية، النظريات التى لا تحقق الحد الأدنى من متطلبات الحياة، تفقد مبررات وجودها.
لكن الأفراد مسئولون أيضًا عن اختياراتهم، هناك من تحمل فى روسيا ظروفًا قاسية، طبيب المخ والأعصاب باع المخللات والمربى فى بلده، ورفض أن يهاجر إلى جامعة أمريكية، ومستشار القضاء كان يضيف إلى دخله بتصليح الساعات، المحنة صنعت عاهراتٍ ورجال مافيا وسماسرة ونصابين، ولكنها صنعت أيضًا أبطالًا، مثل أبطال حصار لينينجراد.
معظم السرد يتم بطريقة الراوى العليم، مع استثناءات قليلة بضمير المتكلم على ألسنة كاملة وعمر ورسلان، وبداية ونهاية الحكاية باحتفال مسيرة المحاربين القدماء، وذكرى هزيمة النازية، وبين التاريخين سنوات طويلة، وحرب شخصية عاشتها كاملة وجيلها. هى أيضا حاربت مثل جدها، ولكنها لم تنتصر، ربما لأنها خاضت حربًا أشرس، فى مواجها ذاتها وأطماعها..
فهل ينجح ابنها صادق، وجيله، فى أن ينتصر فى حروبه الشخصية القادمة؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved