كيف ومتى تتحول القوى الدينية إلى قوى سياسية؟ جميل مطر

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 1 نوفمبر 2012 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

عشت فترات فى بلاد كنت أجد فى بعضها صعوبة فى فهم كثير مما يجرى. أذكر أنه فى واحدة أو أكثر من هذه الفترات وقفت اللغة عقبة فى وجه استيعاب ما أسمع وما أقرأ. لم أتمكن من المشاركة نطقا أو كتابة فيما كان يجب أن أشارك. كيف ومتى تتحول القوى الدينية إلى قوى سياسية؟

 

حدث فى فترة أخرى أن كانت تعقيدات البيئة الاجتماعية أو الأمنية الحائل الذى حال دون اندماجى كاملا فى المجتمع. فاتنى فى الحالتين التعرف مبكرا على تفاصيل الناس وتقاليدهم وتأخر التواصل وتأخر معه الفهم ولم يكتمل إلا بعد وقت خلته دهرا.

 

جاءت فترة ثالثة كنت فيها ضمن ملايين من البشر جرفتهم انتفاضة قبل أن تتفجر فى شكل إعصار تتلاطم فيه أفكار وتتداخل مشاعر انتقام بمشاعر غضب وكره وبكثير من الأحلام والآمال، عشت مع كثيرين فترة طويلة فى انتظار أن يسفر الارتطام والصدام عن مشروع نهضة حقيقية. خاب بعض الأمل حين تغلب الصراخ والعويل فلم أعد أسمع سوى أصوات منفعلة لا تقول شيئا، وانتهى الأمر بأننى لم أفهم إلا قليلا ومتأخرا. ولم أكن وحدى.

 

 

 

ما إن وصلتنى من مركز دراسات الوحدة العربية الدعوة للمشاركة فى أعمال ندوة تنعقد فى حمامات تونس لتناقش موضوع الدين والدولة فى الوطن العربى وقرأت أسماء المشاركين حتى أسرعت بالموافقة. كانت حجتى أمام أصدقاء يهتمون بشئون حلى وترحالى بسيطة وواضحة. قلت إننى فى حاجة ماسة إلى الفهم، أريد أن أشارك بالاستماع والمناقشة لأفهم. قلت لهم أنا ذاهب لأشارك فى ندوة أعتبرها تدريبية؛ إذ يشترك فيها من أثق فى أنهم سيشرحون ويفسرون. كان بين المدعوين للمشاركة الأصدقاء طارق البشرى وحسن حنفى ورضوان السيد وعبدالإله بلقزيز وميشيل كيلو وسعد الدين إبراهيم ومحمود جبريل ومنير شفيق، كان بينهم أيضا الشيخ راشد الغنوشى والشيخ جواد الخالصى وعلى فياض وطلال عتريسى وآخرون ليصل العدد إلى ما فوق الستين. كان تصورى وجوهر قناعتى حين وافقت أن كوكبة على هذا المستوى وبهذا العدد قادرة على أن تعيدنى إلى مصر فاهما.

 

 

 

ردا على حجتى، قيل لى ولكنك تذهب لتستمع إلى أشخاص، أكثرهم تقرأ لهم أو تستمع إليهم فى محاضرات أو لقاءات تليفزيونية، فإذا لم تكن قد فهمت بعد ما يقارب العشرين شهرا من الاستماع والمشاهدة والمتابعة، فلماذا تظن أنك ستفهم فى يومين ما لم تستطع فهمه خلال كل تلك الشهور.

 

ردا على ردهم قلت إننى واحد من الذين يعتقدون أن ما تسمعه من شخص وهو خارج بيئته التى تعود عليها أهم كثيرا مما يقوله وهو داخلها بين حواريه وجمهوره. الإنسان خارج بيئته الطبيعية يكون أكثر قابلية لتطوير أفكاره وحججه وأكثر استعدادا للاستماع إلى من يخالفه فى الرأى. قد يتصلب فى بيئة مختلفة إن كان فى بيئته الأصلية معتدلا، أو يعتدل ان كان فيها متصلبا. أردت أن أرى هؤلاء الأصدقاء من العلماء والمفكرين بعيدين عن قواعدهم وقد خلعوا بعض أردية التحفظ وتحرروا من قيود «الشارع» الذى اعتادوا عليه لغة ولهجة وأسلوبا، وهو نفسه الذى يضغط عليهم ليكتبوا أو يعلنوا ما يريد أن يسمعه وليس بالضرورة ما يعتقدون أنه الصواب، وكثير منهم يستجيب.

 

 

 

على امتداد يومين وأكثر من عشر جلسات جلست أستمع باهتمام إلى علماء أجلاء أعادوا إلى ذاكرتى بعضا مما نسيت وأضافوا جديدا لم أكن أعلمه. أجابت أوراقهم والنقاش الذى دار حولها على بعض الأسئلة، ولكن لأسباب عديدة خرجت من الندوة وفى جعبتى عدد غير قليل من أسئلة حملتها معى من القاهرة وها أنا أعود بها دون أن أحصل على إجابات وافية عليها.

 

حملت معى مثلا سؤالا أوحت به إشارة فى ورقة الصديق طارق البشرى معناها أنه فى الثورات «تتحول قوى اجتماعية ودينية إلى قوى سياسية وتحاول الوصول إلى السلطة». هذا بالفعل ما حدث قى ثورة مصر ويحدث فى سوريا وحدث بشكل مذهل فى ليبيا. توجد فيما يبدو علاقة ارتباط بين الحالة الثورية بكل ما يحيط بها من عدم استقرار وغياب نسبى للمؤسسات وسيولة ايديولوجية وبين نزوح قوى وجماعات من فضائها الدينى الدعوى والاجتماعى إلى فضاء السياسة والسلطة. تمنيت لو أن النقاش فى الندوة تعرض للظروف التى تشجع على النزوح، وما إذا كان انقضاء هذه الظروف يعنى أو يمهد لاحتمال عودة القوى النازحة من الفضاء السياسى الذى احتلته خلال الثورة إلى فضاءاتها الأصلية.

 

يذكر البعض منا ولا شك أنه فى حالة سابقة لعبت القوى الخارجية دورا مؤثرا فى دعم النزوح واستقرار القوى الجديدة كقوى سياسية. حدث هذا خلال عهود المد القومى حين قامت دول وأحزاب فى الإقليم بدور مشهود فى تمكين القوى القومية للاستيلاء على السلطة فى أكثر من دولة عربية.

 

من ناحية أخرى، يبدو أننا نقلل أحيانا من شأن «اللحظة الفارقة» فى تحول قوى وجماعات من العمل الاجتماعى إلى العمل السياسى بهدف الوصول إلى السلطة السياسية. لدينا فى معظم الثورات أمثلة بارزة على أهمية هذه «اللحظة الفارقة» ابتداء من لحظة الهزيمة العسكرية إلى لحظة سقوط نظام مستبد إلى لحظة اعتلاء شخصية كاريزمية ودينية مسرح ملتهب بالأحداث.

 

لا يخفى بعض المهتمين بأمر الدين السياسى، أو علاقة الدين بالدولة، ترددهم فى مناقشة ما يتعلق بدور المال الأجنبى فى دعم عمليات التحول من الدين إلى السياسة. قال أحدهم ذات مرة إن المال إذا انتقل من دولة إلى أخرى لدعم الدعوة الدينية فهذا أمر لا يخل بسيادة الدولة الخارج منها المال ولا الدولة الداخل إليها المال. ويستطرد قائلا إنه بما أن الإسلام دين وسياسة يصبح منطقيا أن المال الأجنبى الذى يدعم الدور السياسى للدين يخضع للمبدأ السائد حاليا فى القانون الدولى المعاصر والمتعلق بالحق فى التدخل لأسباب إنسانية. وبالتالى، وحسب هذا المنطق، فإن التدخل من الخارج بالمال لدعم قوى إسلامية تسعى للعمل بالسياسة لا يهدد سيادة الدولة المستقبلة للمال.

 

 هنا تثور أيضا قضية الاستقواء بالخارج، فرجل السياسة « الليبرالى الاتجاه» إذا استقوى بدولة غربية، أوروبية كانت أم أمريكية، يجرى على الفور اتهامه بالخيانة، وإذا استقوى رجل السياسة «الاسلامى التوجه» بدولة اسلامية أو عربية، لا أحد يتهمه بخيانة الوطن. هذا النوع من الحوار يدفع أناسا كثيرين، ومنهم عالم الاجتماع الشهير والمثير دائما للجدل سعد الدين إبراهيم، إلى التعليق بسخرية متسائلين «عما يميز المال القادم عبر البحر الأحمر عن المال القادم عبر البحر المتوسط».

 

 

 

ما سبق كان واحدا من الأسئلة التى حملتها معى من القاهرة إلى حوار الدين والدولة فى تونس، وعدت به مع عدد لا بأس به من الأسئلة بدون إجابات شافية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved