محمد جبريل.. الطيب النبيل

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 1 نوفمبر 2019 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

لعلى من القلائل الذين لم يمروا على ندوته الشهيرة، ولم يلتقوه وجها لوجه ولو لمرة واحدة (أظننى رأيته من بعيد فى مناقشة إحدى رسائل الدكتوراه بكلية الآداب جامعة القاهرة، ولم أكن أعلم أن الباحثة التى تناقش الدكتوراه هى زوجته زينب العسال) لكن ورغم هذه الخسارة الفادحة، فإن معرفتى باسمه بدأت مبكرا جدا، من كتاباته النقدية، ومقالاته بجريدة «المساء» التى كنت أتابعها بشغف، ثم لاحقا قرأت له عددا كبيرا من أعماله الروائية، أهمها فى نظرى «من أوراق أبى الطيب المتنبى»، «الصهبة»، «قاضى البهار ينزل إلى البحر»، و«رباعية بحرى».

وفى منتصف التسعينيات من القرن الماضى، وقع فى يدى كتابه «نجيب محفوظ صداقة بين جيلين» بغلاف أخضر باهت، وصفحات تزيد على المائتين، وكان ذلك أول كتاب أقرأه بكامله عن نجيب محفوظ، أسلوبه الصحفى واضح وسلس وغايته التوثيقية، «التثقيفية»، واضحة لا لبس فيها، فرحت أننى قرأت الكتاب كله، واستوعبته، ولم تستوقفنى مصطلحات صعبة أو كلمات غامضة كتلك التى كنت «أعافر» معها فى كتب أخرى ولم أكن أفهم شيئا فى النهاية!

بعدها، كلما وقع تحت يدى كتاب عليه اسمه كنت أقتنيه على الفور، خاصة إن كان صادرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بأسعارها الزهيدة، وصادف أن صدر له خلال سنتين أو ثلاث ما يقرب من خمسة كتب دفعة واحدة عن قصور الثقافة، وكان الكتاب التالى الذى قرأته له «قراءة فى شخصيات مصرية»، اشتريته بجنيه واحد، وأذكر أننى فرحت به فرحا غامرا، إذ ضم الكتاب، ثلاثة عشر فصلا عن مبدعين ومفكرين من أجيال مختلفة؛.

كانت المرة الأولى التى أقرأ فيها شيئا متماسكا عن جمال حمدان، وحسين وفوزى، وسيد عويس، وعبدالمحسن صالح، وشغفت كثيرا بما أورده من معلومات عنهم وإشارة لأعمالهم، وسعيت للحصول على كتبهم ومؤلفاتهم، وكم كانت سعادتى عندما قرأت «شخصية مصر» فى صورته الأولى الصادرة عن دار الهلال، و«سندباد مصرى» طبعة دار المعارف، و«التاريخ الذى أحمله على ظهرى» لرائد الاجتماعيين المصريين سيد عويس.

ولعل هذا الكتاب الجميل الممتع الذى اشتمل على تلك الفصول الرائعة عن أبرز أعلام الأدب والفن والفكر فى مصر قد ترك فى بصمات لا تمحى، ولا أتصور أنه غاب عنى أو فارقنى لسنوات طويلة، وظللت أعاود قراءته، وأرجع إليه إلى أن استعاره أحدهم، ولم يرده أبدا (لا أحد يرد الكتب فى مصر إذا استعارها)!!

ولا أنكر أننى تأثرت إلى حد كبير بتلك الروح الشغوفة المحبة التى تبطن كتابته عن كل من كتب عنهم، حملت تقديرا لا مثيل له ليحيى حقى، بعد أن أعدت قراءته بفضل ما كتبه جبريل عنه.

وخلال سنوات تالية، قرأت موسوعته «مصر فى قصص كتابها المعاصرين» فى مجلدين كبيرين، وقبلها كان كتابه المهم «آباء الستينيات ـ جيل لجنة النشر للجامعيين» نافذة أولى للتعرف على دور هذه اللجنة فى اكتشاف أسماء صارت أكبر وألمع الأسماء فى تاريخنا الأدبى المعاصر، يكفى نجيب محفوظ وحده! ثم «السحار.. رحلة إلى السيرة النبوية»، وكتابه المدهش «البطل فى الوجدان الشعبى».

هذا الرجل لعب دورا مهما فى توجيهى، فى فترة مبكرة للغاية، إلى التعرف على الكثير من الأسماء والكتب والشخصيات المهمة، صحيح أننى فى تلك الفترة لم أكن مهتما بدرجة كبيرة بقراءة أعماله الإبداعية التى أدركتها وأنا فى الجامعة، لكننى أجزم بأن عددا كبيرا من كتبه ودراساته الأدبية والنقدية التى قرأتها قبل دخولى الجامعة كانت من أهم ما قرأت، ولم يفتنى منها شىء.

بعد كل هذه السنين، وجدتنى أحمل أطنانا من الامتنان لهذا الرجل الطيب النبيل (هكذا ترسخت قناعتى عنه، وتصورى له، رغم أنى لم أقابله أبدا) خصوصا بعد أن عملت بالصحافة الثقافية، والتقيت كثيرين من أبناء جيلى الذين أجمع أغلبهم على الدور التأسيسى الذى لعبته (ندوته الأسبوعية) فى اكتشاف أبرز أصوات ما عرف بجيل الكتابة الجديدة، أو ما بعد التسعينيات.

أظن أن تكريما واجبا ومستحقا لهذا الرجل قد تأخر كثيرا، جدا، فلا أقل من إرسال باقة ورد إلى تاريخه وجهده وحضوره الإنسانى الذى غمر الكثيرين دون حتى أن يعرفوه أو يلتقوا به وجها لوجه، دعائى بالشفاء والصحة للأستاذ القدير الكبير محمد جبريل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved