حكم القوي

محمود قاسم
محمود قاسم

آخر تحديث: الجمعة 1 نوفمبر 2019 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

السبب الرئيسى لمشاهدة هذا الفيلم والكتابة عنه أنه من إنتاح الأعوام الثلاثة الأولى من الخمسينيات، وهى الفترة الأخيرة من حكم الملك فاروق، وفى الكثير من هذا الأفلام نرى المحاكم بمثابة المكان الأساسى الذى تدور فيه الأحداث مثلما رأينا فى نهاية فيلم «الأسطى حسن» اخراج صلاح أبو سيف، و«حكم القوى» لحسن الامام..

الظاهرة مثيرة للدهشة جدا، وهى أن أوامر صدرت لجهاز الرقابة بمحو كل صورة فى أى فيلم للملك فاروق، ويبدو أن الأوامر كانت مشددة جدا فقد حاول السادة «الممحون»، وليكن هذا اسمهم، حيث جربوا عمل المحو باللون الأبيض، ولكن يبدو أن الصورة كانت تشف، فاستخدموا اللون الاسود بعناية فائقة، وبدأت الأيدى مهزوزة امام الانجاز، أو مرتجقة تماما، وبسبب شدة الأوامر، فإنه كان يتم المحو من جميع الزوايا سواء تم ذلك وصورة الملك بعيدة، أى زوووم آوت جدا، أو تم تصويرها بشكل جانبى، وقد تكررالأمر فى الأفلام المذكورة وغيرها بشكل واضخ باعتبار أن اكثر الأحداث تتم فى المحاكم، حيث الصورة معلقة بشكل واضح وحجم كبير خلف القضاة، وهناك أكثر من جلسة حتى يتم صدور الحكم، حيث استمرت المحاكمة اكثر من سبع عشرة دقيقة من زمن الفيلم.

الفيلم عرض فى العام 1951، وهو من الأفلام الأولى التى قامت ببطولتها هدى سلطان، لكن البطولة المطلقة لمحسن سرحان الذى قام بدور مدحت رجل أعمال يعانى من صعوبات مالية، بعد ان انفصل عنه شريكه، وهو المحتال خادع النساء، الذى يقتل عازر، الشريك المرتقب لمدحت، والذى يسكن فى البيت المقابل لبيته، والرجل البخيل الذى لديه الكثير من أوراق البنكنوت، ويقوم المجرم بقتل عازر قبل قليل من حضور مدحت لمقابلة العجوز بينما ابنة مدحت وزوجته تنظران من النافذة وتتصوران أنه من قتل عازر، كل هذا كى تنتقل الأحداث إلى قاعة امحكمة، ونرى المشهد الرئيسى من الفيلم، المشهد الذى شوه شخص لا نعرف من هو، وماذا كان اسمه، لكن الأمر طال جميع الأفلام التى كانت بها صورة لملك البلاد قبل عام 1952.

لن أتساءل لماذا تم ذلك ليس المحو، ولكنه التشويه المتعمد، فبسبب حركة الشريط فإنه من السهل جدا ملاحظة أن الصورة السينمائية تتراقص، ولابد أن ننتبه إلى أن هناك شيئا ما، وقد انتبهنا فيما بعد إلى الأمر بعد أن تم بيع أصول الأفلام (النيجاتيف) إلى شركة عربية فقامت بترميم النيجاتيف وتمت طباعة نسخ جديدة، ورأينا الأفلام سليمة. وكاملة، وولضحة على شاشات الفضائية، وكان فيلم «عزل البنات» اخراج أنور وجدى 1949، هو النموذج الواضح تماما، ثم «قطر الندى» الذى تدور أحداثه الأخيرة فى المحاكم أيضا، مثلما حدث عام 1953، فى فيلم «دهب» حيث تم استبدال الصورة الملكية بعبارة: «العدل اساس الملك».

ما يدهشنى أن كل النقاد والمؤرخين لم يكتبوا أبدا عن هذا التشويه المتعمد، ومرت الظاهرة ولاتزال نعبر بقوة عن البلبلة الشديدة فى حياتنا، واعتادت الأجيال على أن يروا التشوه دون تعجب، والغريب أننا كنا نندهش فى حصص التاريخ ونخن نسمع أن الفراعنة كانوا يطمسون تواريخ الملوك الاسبقين ويضعون اسماء الحكام الجدد فوق الآثار، ما يعنى أن التشويه متوارث منذ الاف السنين.

الغريب أن نسخة فيلم «حكم القوى» الموجودة فى اليوتيوب مشوهة فى هذا الشأن بطريقة تثير الغيظ بشدة، الفيلم بطولة محسن سرحان وهدى سلطان، وزوزو نبيل. وعباس فارس وزوزو ماضى، وفريد شوقى، تلك المجموعة التى التقت أكثر من مرة معا فى افلام للمخرج نفسه وغيره، ومع ذلك فإن القصص متشابهة، لن أتحدث كثيرا عن الفيلم كالعادة، ولكنى أتوقف عند كيف وصلتنا نسخ الأفلام عبر الزمن، وكيف شاهدناها وقبلنا التشوه، والمسخ الذى حدث لها، فالآن وبعد قرابة سبعين عاما فإن الأجيال التى كنا نمثلها اعتادت على رؤية المسخ باعتباره أمرا طبيعيا وأنا لم ابالغ فى الفاظى، لكننى انزعجت بقوة وأنا اشاهد نسخة الفيلم المشوهة.

فالسينما صورة فى المقام الأول، ورغم أن بلادنا بمنتجيها قد باعوا اصول أفلامنا إلى شركات الخليج، فان هذه الشر كات قامت بعمل ترميمات متميزة لأصول الأفلام، وصرنا نراها كأنه تم خروجها من المعامل صباح اليوم، ورغم ذلك فان الكثير من قنواتنا المصرية لاتزال تعرض كل هذه الأفلام بما حدث لها من مسخ وتشوهات، وايضا قطع لما يشير إلى أمجاد الاسرة الملكية، ومنها على سبيل المثال اوبريت الاسرة العلوية من فيلم «غرام وانتقام» الذى يذكر انجازات حكام مصر فى القرنين التاسع عشر والعشرين حتى سنة انتاج الفيلم 1944، ولا أعرف لماذا نحرم الأجيال الجديدة من رؤية مثل هذا الأوبريت مثلما تم حرمان الجيل الذى تجاوز عمره السبعين، ومن جاءوا بعدهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved