وَهَج

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 1 نوفمبر 2019 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

في بعض الوجوه وَهجٌ ينبُع من روح لم تُفقِدها السنواتُ نضارتَها، وفي وجوه أخرى أفول وخواء. ثمة نظرات متوهجة يحمل أصحابها أملًا لا يتهاوى، وأخرى تنعدم فيها كل رغبة، وتكاد تشي بفقدان علامات الحياة.
***
الوَهجُ كلمةٌ قليلة الاستخدام، ربما كان حظها في الكتابة أعلى مِن حظها في استخدامنا اليومي لمختلف المفردات، بل وربما كان حظها في النصوص الأدبية على وجه التحديد؛ أوفر منه في كتابات الصحافة وعناوين الأخبار ومتون الدراسات والأبحاث؛ لا يشفع لها أنها كلمة قليلة الأحرف، سلسة، مُعبّرة وغنيّة.
***
كثيرةٌ هي الأشياء التي لها وَهج؛ المعادِن النفيسة، الأحجار واللآلئ، قطع الأثاثِ القديمة، اسطوانات المُوسيقى، الأمكِنة العتيقة التي لا تزال تحمل رحيقَ الماضي وبصماتِ مَن عاشوا فيها. الحياةُ نفسُها لها وَهجٌ مهما قَسَت ودالت، لا ينفكُّ العابرون ينجذبون إليها؛ رغم ما تحمل إليهم كُلّ لحظة مِن أوجاع ومُعاناة، وفي هذا يقول أبو القاسم الشابي: سَأَظلُّ أمشي رغْمَ ذلك، عازفاً.. قيثارتي، مُترنِّما بغنائي.. أمشي بروحٍ حالمٍ، متَوَهِّجٍ.. في ظُلمة الآلامِ والأدواءِ، والحال أن العِلَلَ والخطوبَ في أوجِها، لا تمحو الوهجَ الأصيلَ، ولا تطمس أثرَه في النفوس.
***
الوَهَجُ في معاجم اللغة العربية هو حرارة الشمس التي تُستَشعَر مِن بُعد. توهَّجَت المَعركةُ أي استعر لهيبُها؛ إذا اتَّقدت النار قيل إنها قد توهَّجت، وبالمثل يُحكى عن وَهجَان الجَمر واضطرامه، أما الليلة الوَهِجة فهي شديدةُ الحرّ. توهَّجت النجوم أي اشتد بريقها وظهرت جليًا للناظرين، وتوهَّج الجوهر أي تلألأ ولمع، أما وَهَجُ الطِّيب؛ فانتشارُ رائحته وسريانها في الأجواء، وكذلك وَهجُ البحر.
***
تتوَهَّج أعيُن القطط ليلًا؛ ويُقال إن توهُّجَها العنيف فيه حمايةٌ لها مِن المَخاطر المُحيقة، قد لا يلمح السائرون أجسادَها لكنهم قطعًا يرون البريق. على جانبيِّ بعض الطُرق؛ تنغرس عينُ قطٍّ مَعدنية في صفّ ممتد، تبرق هي الأخرى لتنبِّه الغافلين إلى المَسار، وترسم الحدودَ التي لا ينبغي تجاوزها بدقَّةٍ وصرامة.
***
يقول عنترةُ بن شدَّاد في عِشقِه عبلة: أشاقكَ مِنْ عَبلَ الخَيالُ المُبَهَّجُ… فقلبكَ فيه لاعجٌ يتوهجُ… فقَدْتَ التي بانَتْ فبتَّ مُعذَّبا… وتلكَ احتواها عنكَ للبينِ هودجُ. اللعجُ في الصدر مثل اختلاجُه، والقصد أن عبلةَ فارَقَت مَحبوبَها واختفَت عنه، وخلفَت في قلبِه خفقانَ الشَّوق ووَهجَه الحارَ واضطرابَه.
***
مِن الذِّكريَات ما يذهَبُ أدراجَ الرياح؛ وكأن لم يكُن في يومٍ من الأيام، ومنها أيضًا ما يحمل وهجًا مَهما تقادَم، ومهما تراكمَت عليه الأتربةُ وغطاه الغُبار؛ لقاءٌ عابر قد يجعل المَرءَ في حالٍ عجيبةٍ مِن التَوهُّج والإشراق؛ حبيب، صديق، زميل دراسةٍ أو جار قديم، وبالمثل؛ خبر يبدو تافهًا قد يضيء الملامِحَ ويبسط القسمات ويرسم خطوطَ الوجه وتجاعيده من جديد، وحدثٌ غير مُتوَقَّع قد يُحي في القلب جزلًا خبا، ويضخ فيه دفئًا وحرارة، وحماسة كتلك التي تعتري الأطفال؛ ما صادفوا لُعبةً يهوونها.
***
بعضُ الأفكار لها وَهجُها الذي لا ينطفئ أبدًا ولا يتلاشى؛ وإن جَلَبت المَتاعبَ وأثارت المَخاوفَ وأربكَت الحسابات. للثورةِ على سبيل المثال ذاك الوَهجُ ما ذُكِرَت بمجلسٍ.
***
للثورات المُندلعة شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، سخونتُها وألقُها وطلاوتُها، ولكلٍّ منها وَهجٌ خاص؛ عَكَست صِحَّةً أو وَشَت بمرضٍ، أفصحت عن جوع وفقرٍ أو أعلنت غضبًا، صاغت ما شاءت مِن عبارات، ورفعت ما عَنَّ لها مِن كلمات؛ هي بنهاية الأمر فعل يجُبُّ ما سبق، يكسح بعنفوانِه الرُكُودَ، ويغسل الشوارع والميادين من أدرانِها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved