عن الحرب الروسية ــ التركية فى الفضاء العربى: لو أن العرب حاضرون!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 1 ديسمبر 2015 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

الأرض العربية مشاع والسماء العربية فضاء مفتوح، لكل قادر نصيب، وأهل الأرض ينتظرون نهاية الصراع بين الأقوياء، فوقهم ومن حولهم، لكى يعرفوا مصائرهم فى دولهم، ان بقيت هذه الدول على حالها أم طرأ عليها تغيير بالحذف أو الإضافة.
خط النار يمتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى ساحل بحر العرب ثم ينعطف عبر مضيق باب المندب وسواحل اليمن فالسعودية حتى خليج العقبة ومن هناك يتمدد عبر قناة السويس ليلاقى المتوسط عند بورسعيد...
سيناء بدورها صحراء مفتوحة وسماء مفتوحة، تتوغل فيها العصابات المسلحة وتتولى تهريب السلاح والرجال بذريعة نصرة شعب فلسطين فى غزة... ولا بأس ان بقيت بعض أنواع الأسلحة مع «المجاهدين» الذين يقاتلون بالسلاح المهرب من السودان أو عبره (إذا كان المصدر يمنيا..) ضد السلطة فى مصر بالشعار الإسلامى، من دون أن توجه طلقة واحدة إلى العدو الإسرائيلى.. بل يجرى تطمين هذا العدو لضمان «حيدته» وتغافله عن قوافل السلاح التى تتخذ طريقها إلى غزة عبر الأنفاق، أو تنحرف فى وجهة سيرها نحو شمال سيناء متحدية الجيش المصرى، بل كل القوى الأمنية المصرية كما جرى مع الطائرة الروسية التى انطلقت من شرم الشيخ وأسقطت قبل العريش.
مصر تحت الحصار، فعبر الصحراء الغربية يتدفق سلاح منهوب من المشاع الليبى المفتوح تحمله وتحاول الوصول به إلى «بر مصر» بالمدن والبلدات والنجوع فى الطريق إلى القاهرة وما حولها ومن فى «المحروسة» جميعا من البحر وحتى أعماق الصعيد من دون إغفال النوبة.
* * *
السماء العربية، خصوصا فى المشرق الممتد بين البحرين الأبيض والأحمر، مفتوحة لكل من يملك طيرانا حربيا تسبقه سمعة جبروته أو يوفد لكى يثبت قوته وتفوقه على الطيران الآخر، الذى كان (أو سيكون) معاديا..
السماء العربية مفتوحة لامتحان كفاءة الطائرات الحربية وطياريها، و«الأهداف» بمجملها «عربية».. والأرض العربية مفتوحة لعصابات القتل بالشعار الإسلامى تتمدد فيها متخذة من البيداء المشاع ما بين الرقة والموصل، بل ما بين ضواحى حلب وضواحى بغداد مجال «حركة حرة» تدمر العمران وتسبى النساء وتجند الفتية وتتاجر بالآثار حاملة الحضارة الإنسانية، وبالنفط عصب حضارة القرن الحادى والعشرين.
لا الأرض لأهلها العرب ولا السماء.. لا البحر الصغير لهم ولا الطريق إليه وعبره، أما البحار الواسعة فهى للأقوى فى الجو، ومن ملك الفضاء والمحيطات تحكم بمصائر الشعوب على الضفاف وصولا إلى الدواخل.
لا ينتظر التاريخ حروب القبائل لاستعادة جغرافيا الخلافة الآتية من الخرافة. وعلى هامش الصراع على أرض العرب بموقعها الحاكم استراتيجيا وبحارهم التى قد توصل وقد تقطع بين الامبراطوريات مستولدة حروبا كونية تستعيد بعض صفحات التاريخ سياقها متسببة فى استفاقة أحقاد كان الزمن قد طوى سيرتها وذكريات حروب وتصادمات لا تزال مستقرة فى وجدان المعنيين..
ألم تكن إسطنبول أو الأستانة هى هى القسطنطينية؟!
ليست تركيا أردوغان هى دولة الخلافة العثمانية، ولا روسيا بوتين هى الاتحاد السوفييتى والمعسكر الاشتراكى... لكن تركيا ترى نفسها ـ بالشعار الإسلامى ـ مؤهلة لأن تكون دولة الخلافة بلا خليفة فى المشرق، ودولة غربية كبرى فى آن معا.
بالمقابل فإن روسيا بوتين ترى نفسها، بدورها الدولى الموروث عن الشيوعيين والقياصرة معا، دولة قائدة بين دول العالم. لقد سقط الحكم الذى اتخذ الشيوعية عقيدة، لكن الدولة القوية بقدراتها ومخزونها من النفط والغاز والذهب والإمكانات البشرية لما تسقط.
أما العرب فإن أكثريتهم تحمل قدرا لا بأس به من الود لروسيا التى لم تكن دولة استعمارية لبلادهم، بل ان الحكم الشيوعى فيها قد فضح التواطؤ الغربى على العرب فكشف معاهدة سايكس ـ بيكو سنة 1916 التى تقاسم فيها البريطانيون والفرنسيون بلاد المشرق العربى مع بداية الحرب العالمية الأولى، ممهدين لإقامة المشروع الإسرائيلى فوق أرض فلسطين... ثم انها قد ساندتهم فى معارك التحرر من الاستعمار الغربى الذى جاء وريثا للاحتلال التركى بعدما أسقط عن رأسه عمامة الخليفة.
روسيا لم تغادر موقع «صديق العرب»، برغم كل التقلبات التى طرأت على أنظمتهم، فأعادت إخضاع دولهم للهيمنة الغربية بعدما تحولت من أوروبية إلى أمريكية... ولقد تجرع الروس مرارة الانقلابات فى السياسة العربية (قرار السادات بـ«طرد» عشرات آلاف الخبراء الروس من مصر، بعدما كانوا قد عززوا قدرات الجيش المصرى فنجح فى امتحان «العبور العظيم» الذى تغير مساره بعد القفزة الأولى نحو الصلح مع العدو الإسرائيلى..).
***
ثم ان الرئيس التركى أردوغان يرى نفسه «سلطانا» على المسلمين، والعرب منهم بشكل خاص، متحالفا من فوق رءوسهم مع عدوهم الإسرائيلى، متجاوزا فى ذلك «الغرب» الذى ما زال يحرص ـ أقله فى الشكل ـ على مراعاة الحساسية الشعبية العربية... ومع ذلك فإن الغرب يرفض منحه شرف العضوية فى الاتحاد الأوروبى، برغم أنه «غرب» لغته فاتخذ الحرف الافرنجى بديلا من الحرف العربى مبتعدا بها عن لغة القرآن الكريم الذى استعصت عليه ترجمته لاصطدامها مع النص المقدس.
وباختصار فليس بين العرب ـ بمجموعهم ـ والروس خصومة تاريخية أو تصادم فى المصالح، بل ان نصف القرن الأخير قد شهد تعاظما فى التعاون شمل ـ مع السلاح النوعى وبعده ـ إنجازات مدنية مميزة بين أبرز شواهدها السد العالى فى مصر فضلا عن العديد من مجالات البناء والدعم بالخبرات فى حقول النفط والغاز.
مع ذلك فقد تلقت روسيا ضربات معنوية شديدة الوطأة سياسيا فى ليبيا ما بعد القذافى وفى السودان وفى العراق وفى اليمن، جنوبه أساسا ثم الشمال، فضلا عن الضربة الكبرى التى تلقتها فى مصر السادات والحالى التعويض عنها أو ترميم مجراها مع النظام الجديد فى مصر، والتى قصدت جريمة تفجير طائرة الركاب الروسية فى الجو بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ إلى نسف علاقات التعاون الجديدة التى تشمل مجالات عدة عسكرية واقتصادية وتنموية مؤثرة على تنامى الاقتصاد المصرى فى اتجاه التعافى من بعض أزماته الخانقة.
* * *
لشد ما اختلف الحال الآن عما كان عليه قبل سنوات قليلة انتشى فيها «السلطان التركى» أردوغان، بعد وصول الإخوان المسلمين إلى سدة السلطة فى مصر، نتيجة الغفلة أو سوء التقدير، مما عزز سيطرة الإخوان فى غزة، وشجع إخوان سوريا على إعادة تنظيم أنفسهم والتقدم لقيادة المعارضة بدعم تركى واضح عززه التمويل القطرى، وأفاد من الخصومة المستجدة بين السعودية والنظام السورى فى السنوات الثلاث الأخيرة، فتقدم لاحتضان الفصائل المقاتلة الأشرس فى سوريا، «جبهة النصرة» أساسا، وغيرها من «الفصائل» لا سيما التركمانية، وصولا إلى تأمين طريق «داعش» إلى العراق حيث اتخذت من الموصل «عاصمة» ترفد «عاصمتها» السورية فى «الرقة» وتعزز قدراتها العسكرية بحيث تتقدم فى اتجاه حلب وريفها، وهى التى لا تخفى تركيا طمعها فى اقتطاعها من سوريا، استكمالا للمنحة التى قدمها الغرب ـ مع تفجر الحرب العالمية الثانية ـ للحكم التركى كى يبقى على «الحياد»... وقد تمثلت تلك المنحة باقتطاع بعض الشمال السورى (كيليكيا والاسكندرون) ليلحقه بتركيا، فى استغلال شنيع لضعف سوريا التى كانت تحت الانتداب الفرنسى وعجزها عن رفض هذا الاعتداء العلنى والموجع.
* * *
ذلك حديث فى «الماضى»... فما جرى لروسيا وفيها بعد إسقاط طائرتها الحربية عند الحدود التركية ـ السورية، قد بدأ يرسم مسارا جديدا للأحداث فى منطقتنا (العربية) جميعا، وليس العلاقات الروسية ـ التركية فحسب.
ان «مناخا حربيا» يسود المنطقة، وهو يفرض تعديلات أو إعادة نظر فى العديد من وجوه العلاقات بين دولها، لن يقتصر على روسيا وتركيا بل سيشمل دولا أخرى، عربية وأجنبية.
المؤكد أن تركيا خسرت وتخسر يوميا من «رصيدها العربى»، فى حين أن روسيا كسبت وتكسب كل يوم المزيد من الرصيد المعنوى فى المنطقة العربية، تتجاوز التعاطف مع «الضحية» سواء فى إسقاط «داعش» طائرة السياح فوق سيناء، أو فى إسقاط تركيا الطائرة الحربية الروسية فوق الحدود السورية ـ التركية.
والمؤسف أن العرب مختلفون إلى حد العجز عن استثمار هذين الاعتداءين لمصلحة أمنهم القومى، وقدراتهم الذاتية، وبالأساس لمصلحة انتزاع الاحترام لحقوقهم فى أرضهم ولكفاءتهم فى صنع مستقبلهم الأفضل.
والحرب مفتوحة أمام القادرين على خوضها واستثمار نتائجها لدى العرب ومعهم.. إذا هم حضروا، ولو متأخرين!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved