البنك الدولى عدو أم حبيب؟

سلمى حسين
سلمى حسين

آخر تحديث: الثلاثاء 1 ديسمبر 2015 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

وادى القمر.. هذا الاسم الشاعرى يخفى وراءه دراما إسكندرانية، أبطالها ــ إذا ما استخدمنا لغة الدراما ــ منهم الأخيار ومنهم الأشرار. الضحايا هم سكان المنطقة الصناعية ومنهم عاملون فى مصنع للأسمنت. حكايات الإصابة بالأمراض ــ من الجلدية والحساسية المزمنة وحتى السرطان ــ طافحة مرئية مثل سوء الخدمات العامة.
وفى الطرف اﻵخر، مصنع للأسمنت (يعمل بترخيص مؤقت بالمخالفة للقانون): الشريك الأول هو شركة أسمنت عالمية عملاقة هى تيتان، وشريك آخر صغير – نعم، يملك حصة فى الشركة ومن ثم فى الأرباح ــ هو البنك الدولى، عبر إحدى مؤسساته، هى مؤسسة التمويل الدولية.
كل تفصيلة من تفاصيل المأساة تثير التساؤلات عن البنك الدولى. كيف تقرر مؤسسة دولية معنية بالتنمية وبالفقراء أن تمول مثل هذا المشروع الملوث للبيئة والمؤذى لصحة الآلاف من سكان المنطقة الفقيرة والمجحف لحقوق العاملين به؟ إجمالا، ضخ البنك الدولى 50 مليار دولار فى مشروعات ألحقت خطرا غير قابل للإصلاح للبيئة وللبشر، خلال الفترة 2009 ــ 2013، بحسب تحقيق استقصائى عالمى نشر فى ربيع 2015. مشروع الأسمنت بوادى القمر ليس استثناء.
لحسن الحظ، فإن البنك الدولى يتبنى مجموعة من السياسات التى من المفترض أن يلزم بها البنك نفسه وكذلك الدولة – أو الشركة ــ المقترضة. حين يقرض البنك الدولى دولة نامية، مثل مصر لإقامة محطة صرف صحى، أو مشروعا خاصا لإنتاج الأسمدة أو الأسمنت، فإن هذا المشروع ــ على أهميته للبلد ــ قد يترتب عليه إخلال بالنظم البيئية فى المحيط الذى يقام عليه المشروع أو قد يترتب عليه انتزاع لأراض مملوكة لسكان محليين أو تهجير لبعض السكان. كما تفتقر عادة تلك الدول النامية، ومنها مصر، لآليات من شأنها الحفاظ على حقوق العاملين بالمشروع مثل الحريات النقابية، والأجر العادل، أو شروط التسريح أو التأمين الصحى.
لذلك يلزم البنك الدولى نفسه بألا يمنح أى تمويل إلا بعد التأكد من التزام المقترضين ــ سواء حكومات أو مؤسسات خاصة ــ بما وضعه من سياسات حمائية بيئية واجتماعية. سياسة «لا ضرر للبشر ولا للبيئة» من مشروعات ممولة من قبل البنك.
***
رغم وجود تلك السياسات، فإن هناك أكثر من ٣ ملايين تم نقلهم بشكل قسرى أو الاستيلاء على أراضيهم أو اتلاف بيئتهم جراء مشاريع مولها البنك الدولى بين 2004 و2014، بحسب نفس التحقيق. لذا، يعاب على تلك السياسات أن صياغتها مائعة، وأنها لا تضع البنك الدولى بشكل كامل أمام مسئولياته التنموية. بالإضافة إلى أن آليات الشكوى صعبة وطويلة بالنسبة للمتضررين من المهمشين والفقراء. وأخيرا، فتلك الآليات لا تصدر أحكاما واجبة النفاذ، بل هى أقرب إلى هيئات استشارية. ورغم ذلك، قرر أهالى وادى القمر، بمساعدة مجموعة من منظمات المجتمع المدنى، أن يلجئوا لجهاز الشكوى التابع للبنك الدولى. هى قضية من ضمن عشرات فقط يقبلها البنك سنويا من المتضررين من مشروعات يمولها البنك فى أنحاء العالم النامى. اليوم، هناك أمل أن يتحسن الوضع.

إصلاح أم تحسين الصورة؟
حين ضربت الأزمة الاقتصادية معظم دول العالم في2007 و2008، أشارت أصابع الاتهام إلى سياسات الليبرالية الجديدة – وبرز البنك الدولى كإحدى المؤسسات الفاعلة فى دعم تلك السياسات ــ كأحد المتهمين. كما برز من نتائج عولمة الشركات العملاقة التحدى الخاص بالتغير المناخى. كما لا يمكن إغفال تطور الدور الرقابى الذى يقوم به المجتمع المدنى فى أنحاء العالم.
ومن ثم، حاول البنك الدولى تحسين صورته كمؤسسة عالمية داعمة للتنمية. وشرع فى عملية إعادة نظر لهذه السياسات (ضمن إجراءات أخرى). بدأت عملية الإصلاح منذ 2012. وهى أكبر عملية تفاوضية قام بها البنك فى تاريخه. بدأت باستطلاع رأى المتخصصين والدول الأعضاء ومنظمات دولية مثل العمل الدولية وغيرها إضافة لمنظمات المجتمع المدنى حول العالم. ثم نشرت المسودة الأولى للسياسات الحمائية البيئية والاجتماعية فى يوليو 2014، والتى حاولت التوفيق بين وجهات نظر متباعدة. ثم جولة مفاوضات أخرى أفضت إلى مزيد من التعديلات التى ظهرت من خلال المسودة الثانية فى يوليو 2015. وينتظر أن تنتهى المشاورات حول المسودة الثالثة فى يناير المقبل. فأين مصر من تلك المفاوضات ومن تلك التعديلات؟
مصر الرسمية كعضو فى مؤسسة البنك الدولى لإعادة الإعمار والتنمية لم تعلن أى موقف رسمى من تلك المفاوضات. وفى المقابل، تقدمت مجموعة من منظمات المجتمع المدنى لتشتبك مع تلك السياسات الحمائية البيئية والاجتماعية المقترحة، وقد سبق وقدمت تعليقا مكتوبا على المسودة الأولى به أهم النقاط التى ترغب فى تعديلها. ووفقا لموقع البنك الدولى، فإنه لن يستشير تلك المجموعة قبل كتابة المسودة الثالثة (والأخيرة)، مكتفيا بلقاء مع الحكومة المصرية. ما زالت الحكومة تتكتم على موقفها، كما أنها قد تجد نفسها الآن فى موقف غريب، حيث يفترض أن تترأس المفاوضات مع البنك الدولى وزيرة التعاون الدولى وهى الموظفة السابقة بالبنك الدولى. وهناك أخبار غير مؤكدة عن أن البنك قد يعدل عن موقفه ويقابل تلك المنظمات ليناقش مطالبها. فبم تطالب تلك المجموعة وغيرها من منظمات المجتمع المدنى على مستوى العالم؟
لنكن واضحين. ما يطرحه البنك الدولى حتى الآن هو أقل من الوعود التى قطعها رئيس البنك نفسه. يقول البنك إن حكومات الدول النامية، أعضاء البنك من المقترضين، يرغبون فى قروض بلا شروط تزيد من تكلفة هذا الاقتراض. وإذا فرض البنك شروطا عسيرة لحماية البيئة والمجتمعات وحقوق العاملين فقد تنصرف تلك الدول إلى منافسيه الجدد، مثل بنك البريكس أو بنك الجنوب أو الصين بعد أن صارت سوق التمويل الدولية مفتوحة، وبدون شروط تذكر. لا يختلف الوضع كثيرا عما ذكره تقرير صادر عن البنك الدولى عام 1992، حين أشار إلى أن الرغبة فى تدوير المحفظة، أى «فى دفع الأموال لخارج الأبواب» تدفع البنك إلى التغاضى عن التزام المقترضين بحقوق الإنسان، وذلك بحسب تقرير حديث قدمه أمين عام الأمم المتحدة بان كى مون عن سياسات البنك الدولى.

١٨٣ لفظا مطاطا
وعليه، جاءت المسودة الثانية أسوأ من الأولى. حتى بدا وكأن البنك لا يريد أن يلزم نفسه ولا المقترضين بسياسات فعالة للحماية البيئية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، استخدمت ألفاظ مطاطة ١٨٣ مرة، فى نص مكون من ١٥٠ صفحة، بحسب موقع أنشأه خصيصا عدد من منظمات المجتمع المدنى، لنشر التعليقات على المفاوضات الجارية. مثلا، فى مجال البيئة، لم يلزم البنك الجهة المقترضة باستخدام التقنيات «الأقل اصدارا للانبعاثات الملوثة». بل جاء النص كالتالى: «للمقترض أن يفاضل بين الخيارات وينفذ الخيارات ذات الجدوى ماليا وتقنيا وتحقق فعالية النفقة لتخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحرارى greenhouse gas الناتجة عن المشروع».
وحتى اﻵن، يصر البنك على ألا تخضع حقوق العاملين بالمشروعات التى يمولها البنك للمعايير التى تفرضها منظمة العمل الدولية أو غيرها من المعايير المتفق عليها عالميا، مكتفيا باتباع قوانين العمل المحلية فى كل بلد. وهكذا، فإن العاملين بمصانع تيتان وغيرها بدون عقود عمل وبدون أمان صناعى ولا تأمين صحى، أو الذين فصلتهم الشركة فصلا تعسفيا، لن يكون لهم أى حقوق لدى البنك، ولا الشركة، إذا ما التزم فقط بمظلة القوانين المحلية. على البنك الدولى أن يختار موقعه، فى صفوف الأخيار يقف أم فى صفوف الأشرار.
كما انتقدت لجنة التفتيش التابعة للبنك الدولى مثلا أن البنك صار يستخدم كلمة «يطالب require» بدلا من الكلمة القديمة «يضمن ensure» وهو ما يجنبه أى مساءلة قانونية فى حالة الإضرار بحقوق العمال أو المواطنين جراء القروض التى يمنحها.
إذن، يبدو المطروح حاليا غير مرض ــ حتى بالنسبة لجهات الرقابة والمحاسبة داخل البنك الدولى نفسه. وأخيرا، أشارت تلك الهيئة أيضا إلى أن المسودة الثانية قد تجاهلت مطلبها بأن تشمل مظلة السياسات البيئية والاجتماعية كل أنواع التمويل التى يمنحها البنك بكل مؤسساته. من مصلحة مصر أن تتحسن السياسات الاجتماعية والبيئية، ﻷن معظم التمويل الذى حصلت عليه ينطوى تحت تلك السياسات، ولهذا تمكن أهالى وادى القمر أن يلجئوا لنظم الشكوى داخل البنك. فى حين أن هناك أنواعا أخرى من القروض لا تخضع لأى نوع من المراقبة والمحاسبة داخل البنك.

بعد أن صرنا نحتفى بالاقتراض الخارجى..
وهناك تخوف من أن تبدأ مصر فى اللجوء إليها من أجل تسريع بناء البنية التحتية. وهكذا سوف تحتفى مصر بالتوقيع على قرضين جدد من البنك الدولى تفوق قيمتهما مليار دولار، فى ظل أزمة نقص فى العملات الصعبة. ولكن، لن يتمكن الشعب من محاسبة الحكومة ولا البنك عليهما، ولا مناقشة من المتضرر منه، لأن هذا النوع من القروض لا يقع تحت مظلة السياسات الحمائية البيئية والاجتماعية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved