أن تفقد نصف عمرك!

محمد سعد عبدالحفيظ
محمد سعد عبدالحفيظ

آخر تحديث: السبت 1 ديسمبر 2018 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

لا أذكر على نحو التحديد المرة الأولى التى قابلته فيها، ولا متى بدأت صداقتنا، كل ما أتذكره أننى كلما نظرت إلى جوارى أجده، فى أشد اللحظات ضيقا أو فى أكثرها حيرة.
فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى، جمعتنا «تختة» واحدة فى مدرسة «القومية الابتدائية» بمدينة بنى سويف، نلعب ونشاكس ونمسك بالقلم الرصاص لننقش حروفا وأرقاما، نقرأ سويا «أمل.. عمر.. أبى.. أمى.. هات الكرة.. خذى الكرة»، ونتعثر ونحن نكتب «بسبس»، بسبب سنونها الثمانية، نخلط طعامنا لنتناوله معا، ثم نمضى إلى منزلينا المتجاورين.
مضت سنوات الابتدائية على ذات المنوال، نلتقى صباحا ولا نترك بعضنا إلا أوقات قليلة فى وسط النهار أو عند النوم، اقتسمنا الحياة بمعنى الكلمة، تشاركنا تفاصيلها كشقيقين اختار كل منهما الآخر.
انتقلنا إلى نفس المدرسة فى المرحلة الاعدادية، جلسنا على نفس «التختة»، شاركنا فى أول مظاهرة وهتفنا لفلسطين إبان الانتفاضة الأولى.. وعوقبنا فى طابور الصباح بعد تجربة أول هروب من المدرسة لدخول السينما لمشاهدة فيلم «زوجة رجل مهم» للراحل أحمد زكى، اشترينا كتاب «رسائل الحب» لننقل منه بعض فقرات الغرام على أوراق دفتر «الحب المعطر» لنلقى بها إلى تلميذات مدرسة البنات المجاورة.. وسجلنا أول شريط كاسيت «كوكتيل» يجمع أغانى محمد منير وعمرو دياب ومحمد فؤاد.
تعلمنا العوم معا فى حمام سباحة الساحة الشعبية القريبة من منزلينا، وبعد فترة كنا نذهب سرا إلى النيل لنلعب ونعوم بعيدا عن أعين الأهل.
رغم ضعف بنيانه كان دائم المشاكسة مع من هم أكبر أو أقوى وكانت الأمور تنتهى بـ«خناقة» أنال فيها النصيب الأكبر من «الضرب».. بعد فترة من تدريب الملاكمة أمرنا المدرب بالنزول إلى الحلبة، وكانت تلك هى المرة الأولى التى نقف فيها فى مواجهة بعضنا البعض كخصمين، لم تطاوعنا أيدينا على تنفيذ أمر المدرب، اكتفينا بالحوم حول جنبات الحلبة، حتى نلنا عقابنا من «الكوتش» الذى لم يتعاطف مع مشاعرنا وحذرنا بأنه لو تكرر الأمر فستكون نهاية علاقتنا بالملاكمة.
فترات المذاكرة المسائية كانت تتحول فى منزله أو منزلى إلى جلسات للحكى، وما أكثر من حكايات المراهقة، أحلام الواقع والمستقبل، أول دقة من قلب مراهق لنظرة عين أو ابتسامة جارة أو زميلة درس.
فى إجازة الصيف كان محل البقالة الذى يملكه والده فى ميدان المحطة هو مقر تجمع باقى الأصدقاء، كان أكثرنا استماعا وتفاعلا مع مشاكل زملائه، لم يلجأ إليه أحد من أصدقائنا وأصدقاء أصدقائنا ورده أبدا.
على أبواب الجامعة التحقت أنا بكلية الآداب وذهب هو إلى «الحقوق»، ورغم ذلك ظلت عاداتنا اليومية كما هى، فمبانى جامعة القاهرة فرع بنى سويف كان يجمعها سور واحد، فى الجامعة كبرت الأحلام وتشعبت العلاقات ولكن علاقتنا لم تتأثر، نلتقى مساء ليضع كل منا أمام الآخر أسراره وتفاصيل يومه.
ودعنا أيام الجامعة وبعد فترة التحق هو بالعمل كمحامى للغرفة التجارية ببنى سويف ونزلت أنا للعمل بالقاهرة، أعود إلى «البلد» نهاية كل أسبوع فألتقيه لأتخفف من أحمال الأسبوع.
تزوجنا فى ذات العام، أخذ رأيى فى شريكة حياته وأخذت رأيه فى شريكة حياتى، ولم تدرك زوجتانا طبيعة علاقتنا، فكيف لصديق أن يعرف عن صديقه ما لا تعرفه زوجته.
كان صديقى ونصف عمرى «عماد حته» خازن أسرارى فألقى إليه بما لم أكن أستطيع البوح به لأى شخص ويحملنى ما يعجز عن الحديث به مع أقرب الناس، حتى مرضه الأخير لم يصارح به أحد سوى شقيقه الأكبر وأنا.
انقبض قلبى عندما أخبرنى طبيبه أنه مصاب بـ«سرطان الغدد اللمفاوية من الدرجة الثالثة»، دارت ماكينة ذكريات امتدت لنحو 37 عاما وتمنيت على الله أن يتدخل، بدأت رحلة «الكيماوى» وبعد كل جرعة أشعر أن جزءا منى ينهار، تحسبت لليوم الذى سيهاتفنى فيه شقيقه أو أحد أصدقائنا ليبلغنى بخبر رحيله المشئوم، حتى جاء ذلك اليوم وتلقيت الخبر فجر الإثنين الماضى فشعرت أن نصفى ينتزع منى دون إرادتى.
رحل نصف عمرى، وتركنى وحيدا، رحل خازن أسرارى وحامل همومى، لأعرف معنى الفقد الحقيقى.. رحمة الله عليك يا صديقى، ستبقى معى إلى أن يجمعنا الله.. اللهم صبّر والديه وزوجته وأولاده وأشقاءه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved