هل قدر أطفال العالم أن يدفعوا الفاتورة دائمًا؟

هنا أبوالغار
هنا أبوالغار

آخر تحديث: الثلاثاء 1 ديسمبر 2020 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

فى رحلة الإنسان الطويلة نحو ما نسميه اليوم «الحداثة» أو «التطور» كان يأخذ قرارات تحركه نحو هدفه، ولأن كل شىء فى الدنيا له ثمن كان لهذه القرارات تبعات يدفع ثمنها مَن لم يشتركوا بالضرورة فى القرار ولا فى الإفادة من نتائجه. نتج عن هذا «ظلم» تم توزيعه على خلفية موازين القوة (المال، الكثرة، السلاح، مقاليد السياسة والسلطة الدينية.. إلخ)، لكن تاريخيا كان الظلم يقع بشكل أوسع ولمدد أطول على فئات بعينها؛ فالمرأة والأقليات أينما وجدوا والأقل تعليما والأفقر كانوا دوما أكثر عرضة لدفع فاتورة، لكن الفئة التى كانت دوما تدفع الثمن بغض النظر عن خلفيتها هم الأطفال.
استفادت مجتمعات بأكملها وارتقت من هذه «الحداثة»، أو هكذا بدا للإنسان. ففى عصرنا الحديث تخيل سكان أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية أنهم بـ«خياراتهم» التى أثرت على البيئة والاقتصاد العالمى والتكوين المجتمعى للعالم أمنوا مستقبل أبنائهم. فأصبح الطفل «الأكثر حظا» هو الذى يعيش فى مدينة فيها مدارس وجامعات متطورة والأقل حظا يعيش فى القرية. هذا الطفل المحظوظ يأخذ وسيلة مواصلات فى شوارع مكتظة بالناس والعربات والتلوث. لا يعرف الجوع مثل قرينه فى القرية لكن أكله يأتى من المصنع بدلا من الأرض. يومه يقضيه على مكتب فى المدرسة أو المنزل يذاكر مواد ليست بالضرورة ملهمة ولا ممتعة له والأهم أنها قد لا تكون مفيدة له فى حياته المستقبلية. ليحافظ على نشاط جسده يمارس «الرياضة»، هذا الاختراع المعاصر لسد الفراغ الحركى الذى تركته حياتنا الحديثة، بالمقارنة بأطفال فى سنه يستخدمون المشى وسيلة مواصلات، وأصبح النجاح يقاس بالمال والسلطة والشهرة والإنتاجية وليس بالسعادة والصحة والأمان. كل هذا ليس اختيار الطفل، فالطفل إذا تركته على طبيعته ووضعت أمامه خيارات سيقسم يومه بين اللعب (وهو أهم نشاط لتنمية المهارات والذهن والجسد)، وبين استكشاف ومعرفة تجذبه وتهمه.. وبالتالى فإننا بالرغم من اعتقادنا أننا نضع مصلحته أولا فنحن فى الحقيقة نفرض عليه حياة قد لا تكون الأصح ولا الأسعد.
***
دعونا نأخذ رد فعل العالم تجاه جائحة الكورونا وتأثيرها على أطفال العالم كمثال، ففى دراسة نشرتها «منظمة إنقاذ الطفولة الدولية»، استخدم استبيان ضم ١٧ ألفا ونصف ألف أم وأب و٨ آلاف طفل من ٣٧ دولة مثلوا قارات العالم الست وتم نشره فى سبتمبر ٢٠٢٠. البحث كان يهدف لمعرفة تأثير الكورونا والقرارات التى اتخذت لمواجهتها على جودة حياة الأطفال وبالتالى على مستقبلهم. النتائج صادمة فـ٩٠٪ من الأسر حرموا من الرعاية الصحية غير المرتبطة بمرض الكورونا خلال هذا العام و٦٠٪ نقصت موارد أسرتهم الغذائية وقل استهلاكهم اليومى للأكل بسبب نقص دخل الأسرة.
نحو ١.٦ بليون (ضعوا ٩ أصفار بجانب هذا الرقم) طفل أغلقت مدارسهم حول العالم منهم عشرة مليون من المقدر أنهم تسربوا من التعليم نهائيا ولن يعودوا إليه، معظمهم من الفتيات والفئات المهمشة، فمن بين الأسر التى تقع تحت خط الفقر فى العالم ١٪ فقط من يملكون وصلة إنترنت وكمبيوتر. وعندما سئل الأطفال من خلفيات مختلفة عن محصلتهم العلمية هذا العام قال ٨٠٪ منهم «تعلمنا قليل جدا» أو «لم نتعلم شيئا». فثلثا هؤلاء الأطفال فقدوا التواصل مع مدرسيهم تماما ولم يستطع الأبوان، إما لضعف قدراتهم الأكاديمية وإما لانشغالهم لسد حاجتهم المالية، أن يساندوا أبناءهم فى الدراسة.
بشكل عام زاد عدد الأطفال تحت خط الفقر عالميا بنحو ١١٧ مليون طفل فى عام ٢٠٢٠ وحده. وبالتوازى مع جائحة الكورونا تفشت «جائحة العنف الأسرى» والتى كانت بدأت قبل ظهور المرض لكن مع تبعاته الاقتصادية والاجتماعية يقدر أن تكون الأعداد زادت بشكل مقلق جدا. فالعالم يرصد سنويا بليون حالة انتهاك جنسى وجسدى ونفسى وإهمال خطير سنويا لأطفال ما بين عامين وسبعة عشر عاما زادت بشكل مخيف بعد ظهور مرض الكورونا، مرة أخرى تكون الفتيات والأطفال الأكثر فقرا والأطفال ذوى الإعاقات الجسدية والذهنية نسبتهم أعلى من بين ضحايا الانتهاكات. ٣٢٪ من الأسر المشتركة فى الاستبيان قالت إن لديها عنفا أسريا زاد مع زيادة البطالة ونقص الدخل وغلق المدارس. فيما يخص حال فتيات العالم فقد حدث تأخر فى وضعهن بالمقارنة مع أقرانهن من البنين، فثلثا الفتيات قالوا إن واجباتهم المنزلية زادت وأصبحت عبء عليهم بالتوازى مع أعباء المدرسة وأن نصف هؤلاء البنات كُنَّ مسئولات عن إخوتهن الأصغر وهو ضعف عدد البنين الذين طلب منهم نفس المهام.
***
دعونا الآن نراجع هذه النتائج وأسبابها، الكورونا مرض يصيب كل أفراد المجتمع ولا يفرق بين غنى وفقير، وهو مميت فى نسبة منهم وقد يكون له أثر طويل المدى على الصحة لا نعلم عنه شىء بعد. هو ينتشر بشكل سريع والعالم له كل الحق فى أخذ احترازات شديدة ضده. لكن: عندما أخذنا قرارات الغلق لم ننظر إلى تأثيره على الفئات التى يمثل المرض خطورة أقل عليها «الأطفال»، فالطفل فرصته للمعاناة من المرض أو الوفاة منه أقل من الكبار كثيرا (هى موجودة لكنها تماثل كثير من الفيروسات التى يتعرضون لها يوميا ولا نتخذ ضدها احترازات شديدة)، وبالتالى فنحن نغلق المدارس والجامعات والنوادى والأماكن المفتوحة خوفا على فئات أخرى (الأكبر سنا، الذين لديهم أمراض مزمنة.. إلخ)، لكن الطفل دفع وفى الأغلب سيدفع ثمنا غاليا من مهاراته وقدراته الاجتماعية والأكاديمية وصحته النفسية والجسدية لسنوات بعد انتهاء الجائحة بالرغم من أنه لم يكن أبدا فئة معرضة. وكان يمكن بحث طرق لحماية هذه الفئات بتأثير أقل قسوة على الطفل.
مازالت الكورونا خطر ومازال الغلق حل إذا تفشت بشكل مخيف مثلما حدث فى «نيويورك أو ميلانو» مثلا حيث كان الوضع أقرب إلى الحرب وبالتالى نتفهم قسوة رد الفعل، وهذا المقال ليس هدفه التقليل من مخاطر الكوفيدــ١٩ ولا أهمية اتخاذ كل الاحترازات المبنية على حقائق علمية (التباعد متر ونصف، التجمعات الصغيرة، التواجد فى أماكن مفتوحة، غسل اليدين بالماء والصابون كثيرا، الماسك فى أى مكان مكدس...) لكن هدفه أولا وأخيرا لفت الانتباه إلى السهولة التى نأخذ بها قرارات تؤثر على مستقبل أطفالنا تحت مسمى «حمايتهم» والثمن الرهيب الذى لا نحسبه عندما نأخذ هذا القرار خصوصا إذا كنا نأخذه لأسباب لا علاقة لها بصالح الأطفال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved