أحذية الشباب

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 1 ديسمبر 2022 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

أرسل لي ابن صديقتي رسالة على الواتساب بها صورة مكتوب تحتها "يا طنط.. هذه الصورة لايف من أون ذا ران دلوقتي أقسم بالله"، أما الصورة نفسها فيظهر فيها النصف الأسفل لشاب يرتدي شورتًا رماديًا طويلًا نسبيًا، وفي قدميه شبشب البيت وجورب أسود. رددتُ على الرسالة المصوّرة بكلمة واحدة قائلة: ولو. وأصل الحكاية أن ابن صديقتي مثله مثل معظم شباب هذه الأيام لا يرى مشكلة في ارتداء شبشب البيت عند الخروج، خصوصًا إن كان يتجه لتناول قهوته الصباحية في أون ذا ران التي هي بمثابة كمفورت زون أو منطقة آمنة من وجهة نظره باعتبارها تمثّل امتدادًا طبيعيًا للبيت. واضح جدًا أن ابن صديقتي ضجّ من انتقادي أنا وأمه لتصميمه على ارتداء شبشب البيت في الأماكن العامة فأراد أن يفحمنا بصورة الشاب إياه، لكنه في الحقيقة لم يفحمنا وسنظل على اقتناعنا أن البيت بيت وأن الشارع شارع، وأن الكومفورت زون التي يتحدث عنها يمكن أن تكون في غرفة المعيشة أو في الصالة أو في أي مكان آخر خلف باب الشقة، لكن من لحظة الخروج من هذا الباب يكون هناك كلام آخر ومظهر آخر. وبعد أن قلت له "ولو" كتابةً اتصلتُ به لأوضّح أنه لم يكن يحتاج لأن يُقسم لي بالله كي أصدّق أن الصورة حقيقية، لأني أراها بعيني حقيقية، ولأنني من قبل أن يبعث لي بها كنتُ قد رأيتها بنفسي في أكثر من مكان، وهذا يعني أن الصورة نعم تؤكد فكرته لكنها لن تغيّر موقفي ولا موقف صديقتي.
• • •
ظاهرة الخروج بشباشب البيت هذه الأيام لا يمكن تفسيرها بمجرد البحث عن الراحة، فهناك أنواع من الشباشب المخصصة للخروج تتميّز بأنها مريحة لأقصى درجة ممكنة، لكن أظن أن تعامل الشباب مع الأحذية بشكل عام يعبر عن ثورة جيلية في العلاقة بين الاثنين. لقد عشت طفولتي وصباي بل وحتى شبابي وأنا تقريبًا لا أكاد أرى أبي يرتدي إلا الحذاء البروك الإنجليزي الشهير ذي الشكل المميّز. وكان لدي أبي من هذا النوع من الأحذية كل الألوان المتاحة، فكان لديه الأسود والبني والأبيض في الأسود الذي كان لسبب غير معروف يوصف بأنه أرنبي. ومن اللون الأسود بالذات كان لديه أكثر من زوج واحد، وكان يدهشني جدًا عندما كان يفاضل بين زوج وآخر من أحذيته مع أنهم جميعًا طبق الأصل، فأتأمله وهو يخرج زوجًا من البروك الأسود من تحت الدولاب ويتفحصّه بعين خبير ثم يعيده إلى مكانه وهو يتمتم بصوت مسموع: لأ مش هو ده! ويشّد زوجًا آخر ليلبسه. فكّرت أكثر من مرة أن أسأل أبي عن الفرق بالضبط بين أحذيته السوداء، لكني لم أفعل لثقتي في أن أبي يعرف جيدًا ما يفعل. أما أكثر المشاهد التي طالما أبهرتني أثناء طفولتي في علاقة أبي مع أحذيته، فكان مشهده صباح يوم الجمعة من كل أسبوع، عندما كان يجلس على مقعد خشبي قصير ويفرش أرض المطبخ بورق الجرائد القديمة ويروح يلمّع أحذيته البروك واحدًا تلو الآخر فتكاد تتلألأ من فرط لمعانها، وبعد أن ينقل أبي ثروته العظيمة من الأحذية إلى الشرفة ليجّف طلاؤها، يبدأ في إعداد العدّة لأداء الصلاة. هكذا تربيتُ في أسرة لم تخطر على بالها فكرة الخروج بشبشب البيت، بل لم يكن ربّ الأسرة يقبل الخروج من البيت إلا بالحذاء البروك، وأظن أن كل الأسر من نفس الطبقة الاجتماعية كانت مثل أسرتي، فلقد كنّا نشبه بعضنا في الزّي والتفكير والعادات. ثم بعد ذلك يأتي ابن صديقتي ليشهدني أنا وأمه أن شابًا روشًا يشرب القهوة في أون ذا ران يرتدي شبشب البيت!
• • •
قلتُ إن علاقة الشباب بالأحذية تعبّر عن ثورة جيلية لأن الأمر يتجاوز مسألة الشباشب، فهناك طقوس جديدة وبعضها يبدو لأبناء جيلي مدعاة للاستغراب الشديد. عشنا عمرنا نعرف أن الحذاء ذو الرقبة أو البوت لا يُلبَس إلا في فصل الشتاء طلبًا للتدفئة، ومع بداية ظهور هذا الاختراع العجيب كنّا نشتريه من الخارج لأنه غير متوفّر في السوق المصرية. الآن اختلف الوضع.. توفّرت البوتات وصرنا نرى الفتيات يرتدينها في عزَ الحر، وكلما ارتفعت التّنورة لأعلى طالت رقبة الحذاء أكثر. في الستينيات وحتى نهاية السبعينيات كانت تنانير الفتيات كلها قصيرة ومع ذلك لا أذكر أنني رأيت فتاة ترتدي بوتًا في الصيف فالجو نار والتصاق الجلد بالساق مؤلم لأنه يغلق المسام ويزيد الإحساس بلهيب الحر. وعندما أبحث عن تاريخ تحوّل البوت من حذاء شتوي لحذاء صيفي لا أستطيع أن أجد نقطة زمنية محدّدة، وربما لا أجد تفسيرًا منطقيًا لانتشار هذه الظاهرة لأن اللامعقول نفسه قد يكون هو التفسير المحتمل. أما ظاهرة ارتداء البوت والأحذية بشكل عام دون جوارب أو على الأقل التفنن في تقصير هذه الجوارب وإخفائها حتى لا تكاد تُرى بالعين المجردة فإنها تعود لأعوام قليلة مضت. وأذكر أنني مررت بعشرات المحلات حتى أستطيع أن أجد جوربًا قطنيًا متوسط الطول من تلك الجوارب التي اعتدنا عليها ولا يخجلنا ظهورها للعيان، لكن عندما ارتديته لفتت ابنتي نظري في أدب إلى أن "الشراب الطويل ما بقاش موضة يا ماما".
• • •
أما الأحذية الرياضية مع فستان الفرح فهذا هو المظهر الأبرز للثورة في تعامل الشباب مع الأحذية. على أيامنا كانت تجلس العروس في الكوشة في هدوء ووقار، لا تتحرك منها إلا لترقص أول ڤالس مع عريسها وما أدراك ما سحر الرقصة الأولى، أو لتلقي باقة الورد وراء ظهرها لتسقط بين ذراعّي صاحبة النصيب من بين القريبات والصديقات. كانت خطوات العروس محسوبة وحركاتها مدروسة وكعب حذائها عال فهذا جزء من مستلزمات التأنق ومظهر للقوام الممشوق. كل هذا تغيَر الآن، وصار رقص العروس هو القاعدة وسكونها هو الاستثناء، يعلو صوت الموسيقى فينفعل الشباب ومعهما العروسان ويذوب الجميع في الجميع داخل حلبة رقص تمتد أفقيًا بعرض قاعة الحفل. انتصرَت الراحة على الأناقة، ورسمَت البهجة شكلًا جديدًا لحفلات الزفاف، لكن مَن قال إن حفلات زفافنا كانت تنقصها البهجة؟ الأرجح أن الذي حدث هو أن مفهوم البهجة لحقه تغيير فصار أكثر ديناميكية وحركية وانطلاقًا. بمرور الوقت اتسعّ نطاق الظاهرة وتجاوز حدود الأفراح، وهكذا عرِفَت الأحذية الرياضية طريقها إلى أقدام الشباب من الجنسين في معظم المناسبات الرسمية. لكن هذا أيضًا ليس هو كل شيء، فهناك بعد المزيد من مظاهر الثورة على أحذية الأجيال القديمة، فالأرجح أننا التقينا في المصايف ولو لمرة واحدة على الأقل بشباب يرتدون أحذية بعجلات يسابقون بها الريح وتأخذهم لشراء احتياجاتهم أو لزيارات الأصدقاء. عن نفسي يذكّرني هذا المشهد بأغنية "يا قلبي يا خالي" التي غنّاها عبد الحليم حافظ لآمال فريد في فيلم "بنات اليوم"، مع اختلاف كبير في السياق، فآمال فريد كانت تتدرَب على الباتيناچ لتمارسه في نادي المعادي، أما الشباب فإن السرعة تتجاوز بالنسبة لهم حد التسلية لتتحوّل إلى أسلوب حياة.
• • •
يا أيها الشباب المتمرّد علينا وعلى قوالبنا، كم من عوالم مثيرة تكتشفونها يومًا بعد يوم وتخوضون فيها بأحذيتكم الجديدة، أما نحن فنقف على الأبواب نراقبكم وننقدكم ونحبكم، وتظل أقدامنا داخل أحذيتنا القديمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved