قبل أن نُطلق الأحكام.. دعونا ننتظر «الست»
خالد محمود
آخر تحديث:
الإثنين 1 ديسمبر 2025 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
فى الأيام الأخيرة، صرتُ أتابع ما يُثار حول فيلم الست بنفس القدر من الدهشة الذى يتملكنى كلما شاهدت كيف يتعامل الجمهور مع أى محاولة للاقتراب من رموزنا الفنية الكبرى. موجة من الأحكام، تعليقات حادة، مواقف قاطعة… وكل هذا قبل أن تُعرض لقطة واحدة من الفيلم. وكأننا نعيش فى زمن باتت فيه الصورة المتداولة أهم من العمل نفسه، والانطباع أسرع من الرؤية.
ورغم أننى لست ممن يوزّعون صكوك البراءة الفنية لأحد، فإننى أؤمن بشىء واحد: لا يجوز أن نحكم على فيلم لم نره بعد. بل إن التجربة علّمتنى أن كثيرًا من الأعمال التى سبقها هجوم، خرجت لتثبت أن الحكم المسبق لم يكن أكثر من ضجيج مؤقت.
منى زكى… ولماذا الهجوم قبل المشاهدة؟
وسط كل ما قيل وما كُتب، شعرتُ أن الهجوم الذى طال الفنانة منى زكى ليس فقط مبكرًا، بل ينقصه قدر من الإنصاف. منى ليست ممثلة طارئة على الساحة، بل صاحبة تجربة طويلة واشتباك دائم مع الأدوار المركّبة، وقد اختارت أصعب الفنون: تجسيد شخصية يعرفها كل عربى عن ظهر قلب. مهمة ليست سهلة، وليس من الضرورى أن تكون النسخة المطابقة لأم كلثوم، فالفن ليس بحثًا عن «شبه» بقدر ما هو بحث عن روح.
نعم، قد نختلف بعد مشاهدة الفيلم، وقد نرى أن الأداء لم يكن على قدر التوقعات؛ هذا حقنا تمامًا. لكن ما ليس حقا لنا هو أن نُطلق الحكم قبل أن نرى.
وفى المقابل، فإن تجربة المخرج مروان حامد لا تسمح لى ولا لغيرى بأن أتعامل مع الفيلم بخفة. هذا مخرج يعرف طريقه جيدًا، من حيث الصنعة، والخيال، والقدرة على بناء عالم بصرى له نبرة خاصة. كل من تابع أعماله يدرك أنه لا يضع اسمه على مشروع لا يؤمن به. فكيف إذا كان العمل عن أم كلثوم، أيقونة الفن العربى وصوت القرن؟
أثق أن مروان يدرك حساسية الاقتراب من هذه القامة الفنية، ويعرف أن تقديم فيلم عنها ليس مجرد مغامرة سينمائية، بل مسئولية ثقافية تجاه تاريخ فنّى لا نملك الترف فى أن نفقده أو نتركه للصدفة.
ربما ننسى أحيانا أن الأجيال الجديدة لم تعش زمن أم كلثوم.. تعرف الأغانى، نعم، لكن لا تعرف المرأة، ولا الرحلة، ولا الوجع والعمل والصبر خلف هذا المجد. لذلك فإن فيلما سينمائيا عنها ليس ترفا فنيا، بل محاولة لإعادة تقديم رمزٍ يستحق أن يُروى، وأن يُعاد اكتشافه من جديد.
الواقع ان ظاهرة الحكم المسبق ليست حكرًا علينا وتجربتنا ليست استثناء ؛ بل هى جزء طبيعى من استقبال أى عمل لسيرة ذاتية، تعرضت ممثلات عالميات لهجوم قاسٍ لمجرد الإعلان عن تجسيدهن شخصيات أسطورية ، ثم تحولت إلى علامات فنية لدينا الكثير من الأمثلة:
عند الإعلان عن اختيار ماريون كوتيار لتجسيد إديث بياف، فى فيلم La Vie en Rose اعتبر البعض أنها لا تمتلك أى شبه جسدى أو صوتى مع الأسطورة الفرنسية، لكن النتيجة كانت أداءً استثنائيًا منحها جائزة الأوسكار وأعاد بياف إلى الواجهة العالمية.
ميشيل ويليامز قبل تجسيد مارلين مونرو، فى فيلم My Week with Marilyn
تعرضت لانتقادات واسعة قبل العرض بسبب اختلاف الملامح والبنية الجسدية عن مارلين مونرو، لكن بعد عرض الفيلم، أثنى النقاد على الأداء النفسى العميق الذى قدمته، ورُشحت للأوسكار، ورامى مالك قبل أداء فريدى ميركورى فى فيلم Bohemian Rhapsody واجه الإعلان عن اختيار رامى اعتراضات بسبب شكله ونبرة صوته، ومع ذلك أصبح الفيلم أحد أكثر أفلام السير الذاتية نجاحًا، وفاز مالك بجائزة الأوسكار.
آنا دى أرماس التى جسدت مارلين مونرو مرة أخرى فى فيلم Blonde، قبل العرض شكك كثيرون فى قدرتها على تجسيد مارلين، خصوصًا بسبب لهجتها، لكن بعد عرض الفيلم، اعتُبر أداؤها من أكثر الأداءات إثارة للجدل والقوة فى نفس الوقت.
هذه الأمثلة توضح أن الحكم الحقيقى يبدأ بعد المشاهدة، لا قبلها، وفى كل مرة تراجع الجمهور ليعترف: الحكم كان سابقًا لأوانه.
دعوا الفيلم يُعرض ثم احكموا .. وأقولها بوضوح: لستُ فى موقع المدافع عن فيلم لم أشاهده بعد، ولا يهمنى إن انتهيت إلى الإعجاب أو النقد أو الرفض، لكن ما يهمنى حقا هو أن نتحرر من ثقافة إصدار الأحكام المسبقة، وأن نعطى العمل حقه من المشاهدة قبل أن نضعه فى خانة النجاح أو الفشل.
إن الجدل حول فيلم «الست» طبيعى ومفهوم، لكنه يجب ألا يتحول إلى عائق أمام الإبداع. فالأعمال العظيمة كثيرًا ما وُلدت وسط ضجيج، لكن التاريخ لا يتذكر الضجيج… بل يتذكر الإبداع.
أم كلثوم تستحق مشاهدة عادلة.. منى زكى تستحق فرصة… ومروان حامد يعرف جيدًا ماذا يفعل.
فلننتظر الست… ثم نتكلم.