النظام الدولي العادل

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 2 يناير 2023 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

لم يكد يسقط حائط برلين، مسطرا نهاية ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتى، قبل ما ينيف على عقود ثلاثة خلت؛ فيما اعتبر إيذانا بأفول حقبة القطبية الثنائية، حتى انبرى المراقبون والخبراء فى استشراف مآلات النظام الدولى. وقبل انقضاء العام 1990، أعلن الرئيس الأمريكى الأسبق، بوش الأب، عن نشوء «النظام العالمى الجديد»؛ بصبغة قطبية أحادية، تقودها واشنطن، بإسناد من حلفائها الغربيين.
منذ وُضعت لبناتُه الأولى عام 1648، بتوقيع معاهدات «ويستفاليا»، التى أنهت الحروب الدينية فى القارة الأوروبية، ودشنت عصر الدولة الوطنية القومية، صار النظام الدولى انعكاسا لتوازنات القوى بين الدول العظمى، وصدى لحرص كل منها على توجيه ذلك النظام لخدمة مصالحها بالأساس؛ عبر تطويع قواعده لخدمة مآربها. بدورهم، ارتأى مفكرون استراتيجيون أمريكيون كمثل، ريتشارد هاس، أن النظام الدولى الراهن، ينشد حماية مصالح الولايات المتحدة، وسرمدية هيمنتها على العالم. انطلاقا من أن القيادة الأمريكية القوية والمستدامة، تعد ضرورية لترسيخ دعائم النظام الدولى القائم على القواعد، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ابتغاء للرفاهية، وضمانا للسلم والأمن العالميين، وترسيخا لحقوق الإنسان وكرامة البشر.
فى المقابل، تتوق منظمات دولية، وقوى عالمية صاعدة، ودول متوسطة القوة، كما شعوب العالم النامى، وأتباع المدرسة المثالية فى العلاقات الدولية، إلى نظام دولى «عادل»؛ يتيح للجميع فرصة لتحقيق أهدافهم وحماية مصالحهم، من دون الافتئات على حقوق بعضهم البعض. متطلعين إلى أن تنصف عدالة النظام الدولى، ضعفاء العالم، سياسيا، واقتصاديا، ومعرفيا. ولقد غدا القانون الدولى ركنا من أركان النظام العالمى، يعينه على معالجة الخلل، عبر رفع الضيم عن المغبونين، وإعادة توزيع القيم بين البشر، بما يخولهم تحقيق ذواتهم وتلبية احتياجاتهم المادية والمعنوية. كذلك، باتت عملية تأسيس القواعد والمبادئ القانونية الدولية، عرضة للتأثر بتوزيع قوى الفاعلين الدوليين. وبناء عليه، يعتقد خبراء أن تحقيق النظام الدولى العادل، يتطلب وجود سلطة كونية عليا، تناظر السلطة الحاكمة على مستوى الدولة الوطنية.
على مدى القرون الخمسة الماضية، توالت محاولات متنوعة لإدراك العدالة فى العلاقات الدولية. فمن جهتها، ذهبت الأطروحات التنظيرية لتجارب؛ «السلام الرومانى»، و«السلام البريطانى»، و«السلام الأمريكى»، إلى أن نموذج القطب العالمى الوحيد المهيمن، ربما يكفل استدامة السلام، وضمان الأمن والاستقرار العالميين لمدد أطول. فعلى غرار الحكومات القوية المتجانسة فى الدول المستقرة، سيتحرك ذلك القطب، بفيض حرية، وقدرة لا مناوئ لها، ليفرض قيمه، ويرسى دعائم نظمه الأمنية، والسياسية، والاقتصادية. فى المقلب الآخر، تجنح آراء مغايرة لاعتبار النظام العالمى متعدد الأقطاب، هو الأقرب إلى التماس العدالة. ذلك أن توزيع عناصر القوة الكونية بين عدة أطراف، من شأنه أن يفرض نوعا من التوازن الدولى، كما يحول دون احتكار القوة بواسطة دولة بعينها.
أُمميا، اعتمد مجلس حقوق الإنسان، نهاية سبتمبر 2011، القرار بشأن إقامة نظام دولى ديمقراطى ومنصف، بما يدعم الإعمال الكامل لحقوق الإنسان جميعها للجميع، على أساس المبادئ الراسخة بميثاق الأمم المتحدة. بحيث يكون لجميع الشعوب، الحق فى السلام، والتضامن الدولى، والتنمية، وتقرير المصير؛ وممارسة السيادة الفعلية على ثرواتها ومواردها الطبيعية؛ والعمل بحرية لأجل تطورها اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. مع احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية للجميع، وتكريس مبدأ المساواة فى الحقوق، والديمقراطية، والعدالة، وسيادة القانون، والتعددية، وتوفير معايير أفضل للعيش الكريم. فضلا عن إتاحة فرص متكافئة للمشاركة، بفعالية، فى صنع القرار، إقليميا ودوليا؛ فى ظل مسئولية مشتركة للتصدى للمخاطر، التى تهدد السلم والأمن الدوليين. وقد أنشأ القرار 18/6 ولاية الخبير المستقل، المعنى بتعزيز إقامة نظام دولى ديمقراطى ومنصف، لفترة أولية مدتها ثلاث سنوات. ومنذ ذلك الحين، تمَّ تمديد الولاية، فى 25 سبتمبر 2014، وفى 28 سبتمبر 2017، وفى 6 أكتوبر 2020، لثلاثية أخرى. كما جدَّد مجلس حقوق الإنسان التزامه إقامة نظام دولى ديمقراطى ومنصف، من خلال اعتماد القرارات الأممية ذات الصلة.
وفى خطابه أمام القمة العربية ــ الصينية بالرياض، مطلع الشهر المنقضى، دعا الرئيس السيسى، إلى بناء نظام عالمى أكثر عدالة؛ يتأسس على القيم الإنسانية، وقواعد القانون الدولى، واحترام حق الدول العربية فى الاختيار دون وصاية، وعدم المساس بمحددات الأمن المائى العربى، ورفض تسييس قضايا حقوق الإنسان. مع تعزيز حوار الحضارات، وتقارب الثقافات، والتعاون فى مواجهة التغيرات المناخية، ومكافحة خطر الإرهاب والتطرف. وتشجيع المجتمع الدولى على تخفيف عبء الديون عن عاتق الدول التى تعانى من ارتفاع فاتورة استيراد الغذاء والطاقة، وتعزيز النظام التجارى متعدد الأطراف.
خلال كلمته أمام منتدى أنطاليا الدبلوماسى، فى مارس الماضى، انتقد الرئيس التركى إردوغان، النظام العالمى الراهن، معتبرا إياه أحد أسباب تفاقم الأزمات عالميا. كما أدان آلية عمل مجلس الأمن الدولى، خصوصا عندما يصبح أحد الأطراف المتصارعة عضوا دائما ويملك حق «الفيتو»، بما يقوض القوة الزجرية للمجلس. وأكد أن الهيكل الأمنى الحالى، الذى يعطى الأولوية لمصالح الدول الخمس المنتصرة بالحرب العالمية الثانية، لم يعد يلبى احتياجات عالم اليوم؛ واصفا النظام، الذى يضع مصير 193 دولة عضوا فى الأمم المتحدة، تحت رحمة خمسة أعضاء دائمين بمجلس الأمن بـ«غير العادل». وطالب بضرورة تأسيس نظام عالمى أكثر عدلا، بحيث يراعى مصالح الجميع، وليس الدول الخمس دائمة العضوية فقط. معتبرا أن رفض القوى العظمى مطالب إصلاح الأمم المتحدة، تمسكا منها بعدم تفتيت سلطتها وهيمنتها، إنما يقوض الثقة بالمنظمات الدولية.
وفى مقال نشره بالعدد الأخير من فصلية «فورين أفيرز» الأمريكية، دعا المستشار الألمانى، أولاف شولتز، إلى نظام دولى عادل ومُحَكَم. يعتمد التعددية كمبدأ محورى، ويحمى السلم والأمن الدوليين، ويدعم الديمقراطية، ودولة القانون، وحقوق الإنسان، كما يسعى نحو عولمة عادلة ومستدامة. وفى سبتمبر الفائت، وخلال مشاركته فى أعمال الدورة السابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، دعا الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى، إلى تضافر الجهود الدولية لبناء نظام دولى عادل، يفسح المجال للتعددية الاقتصادية. أما الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، فقد وجه فاعليات المنتدى الاقتصادى الشرقى السابع، الذى احتضنته مدينة فلاديفوستوك، فى سبتمبر الفائت، للتباحث بشأن تجاوز النظام الدولى أحادى القطبية، وولوج عالم متعدد الأقطاب. وفى ذات السياق، أكد وزير خارجيته، لافروف، فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، رفض العالم العيش فى ظل هيمنة قطب وحيد، يجبر الجميع على العيش، وفقا لقواعده، التى لا تتيح عالما ديمقراطيا عادلا، خال من الابتزاز والترهيب، والاستعمار الجديد. لافتا إلى أن خط الغرب يقوض الثقة فى قدرة المؤسسات الدولية والقانون الدولى على ضمان العدالة، وحماية الضعفاء من التعسف.
ليست عدالة النظام الدولى، مرتهنة بأحادية، أو ثنائية، أو تعددية قطبيته، بقدر ما تعتمد، بالأساس، على موضوعية هيكله المؤسسى، واستقلالية بنيانه القانونى، فضلا عن مدى تكافؤ فرصه، وتعددية خياراته، وإنسانية تفاعلاته. حيث يفصح تاريخ العلاقات الدولية عن إسهام التعددية القطبية فى إشعال الحربين العالميتين خلال النصف الأول من القرن العشرين؛ فحينئذ، تمخض تنافس القوى الدولية الصاعدة فى السيطرة والهيمنة، عن حتمية تصادمها. ورغم أن زمن الثنائية القطبية، لم يشهد اندلاع حروب عالمية مروعة، إلا أنه حفل بحروب الوكالة، كما لم يخل من المواجهات الإقليمية، والنزاعات الأهلية والانقلابات العسكرية، وسباقات التسلح. وإبان حقبة الأحادية القطبية، لم يحل استقرار الهيمنة، دون تأجيج الصراعات المسلحة، والحروب التجارية، والأزمات الاقتصادية، والكوارث البيئية والمناخية. علاوة على تطوير واستحداث المنظومات التسليحية الأشد فتكا، وتفشى الأنشطة والحركات الإرهابية، التى استفادت من ثورة الاتصالات والتكنولوجيا. بينما يلوح فى الأفق، شبح حرب عالمية، قد تتطور إلى مواجهة نووية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved