معايير منحرفة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: السبت 2 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

كم من مرة غمرتنى دهشة، تحولت بمرور الوقت إلى غيظ؛ وأنا أرى الدراجات النارية تصعد لتسير بجانب المشاة فوق الأرصفة، والميكروباصات تنطلق فى شوارع رئيسية عكس اتجاه السير، غير عابئة بطابور القادمين فى وجهها، والسيارات تعود إلى الخلف على مطلع الكوبرى أو من داخل النفق، هروباً من الزحام، والباعة وقد احتلوا الأرصفة ببضائعهم فأخفوا وراءهم المحال وسدوا أبوابها، وجاروا على حرم الشارع نفسه، وقد صارت بعض شوارع وسط البلد الواسعة مكونة من حارة واحدة، تعبر منها السيارات بالكاد.

 

كم من مرة رحت أنتظر خروج سيارة من مكانها لأضع سيارتى، لكنها ما إن تغادر حتى تأتى أخرى من الخلف وتحتل مكانها، غير عابئة بإشارة انتظارى ولا بتلويحى للسائق وإطلاقى الكلاكس، وكم من مرة صادفت رجلاً يدخل عربة السيدات بمترو الأنفاق، فلا يعتذر أو حتى يغادرها دون اعتذار، بل يتشاجر مع من تطلبن منه النزول والانتقال إلى عربة أخرى. لم يلفت انتباهى خرق القوانين واللوائح الذى نرتكبه على مدار الساعة رغم الفجاجة، بقدر ما فعل هذا التغير الواضح فى الأعراف والسلوكيات، والمعايير الاجتماعية.

 

●●●

 

تتألف الضوابط التى يعرفها كل مجتمع من قواعد رسمية مكتوبة، وكذلك من أعراف غير منصوص عليها، تنشأ تلك الأعراف بالممارسة والاعتياد، وحين تلاقى القبول من غالبية الأفراد، يتوافق عليها المجتمع ويقرها لتصبح جزءًا أصيلاً منه، فتمثل فى نهاية الأمر دليلاً، يقود الفرد إلى معرفة ما يتوقع منه المجتمع القيام به أو تجنبه. تختلف الأعراف والمعايير الاجتماعية من ثقافة لأخرى، ومن بيئة إلى بيئة. من المتفق عليه مثلاً فى البلدان الغربية أن يُقَبِّل الرجل المرأة إذا ما التقيا ولا يقبل الرجل، والعكس فى البلدان الشرقية. يتوقع الركاب فى القطار السريع بين البلدان الأوروبية ألا تتحدث بصوت عال وألا تزعج بتليفونك الآخرين، بينما يتميز أغلب العرب بصوت عال لا يستنكره المحيطون، أذكر أن شاباً صغيراً تحدث إلى جارته بصوت أعلى قليلاً من الهمس، فأصدر ركاب عربة القطار المتجه إلى الجنوب الفرنسى جميعهم صوتاً، ينم عن الاستياء، واضطر الشاب إلى الاعتذار والصمت.  كانت القواعد والسلوكيات الاجتماعية المألوفة لدينا فى المجتمع المصرى، تقتضى أن يقف الجالس فى المواصلات العامة لكبار السن، وأن تحظى السيدات بمكانة خاصة واحترام من الرجال، ثم ومع تطور الأمور وتعقد شكل الحياة، لم يعد أحد يقف كى يجلس آخر، ولم تعد المرأة تحظى بأى معاملة مختلفة، نشاهد كل يوم أعمال تحرش لا حصر لها، وشاهدنا منذ فترة قصيرة ذاك الرجل الضخم الملتحى، وهو يسد بكفه الغليظة فم سيدة من الناشطات السياسيات البارزات، تكبره عمراً بسنوات كثيرة.

 

●●●

 

احترام القوانين والقواعد المكتوبة أو على الأقل الاضطرار لاتباعها، ينبع فى معظم الأحيان من وجود عقوبة يمكن تطبيقها على المخالفين، أما احترام الأعراف والمعايير الاجتماعية غير المكتوبة، فيأتى رأساً من قوة المجتمع وقدرته على تشكيل سلوكيات الأفراد وضبطها. لا يبدو أن المجتمع الآن قادر على الضغط على أفراده من أجل إلزامهم بأعرافه أو حتى قوانينه الرسمية، جرب أن تقف أمام عربة تسير فى عكس الاتجاه رافضاً عبورها، ستجد عشرات الأشخاص يرجونك أن تتنحى جانباً وأن تفسح لها الطريق، مرة بدعوى عدم تعطيل المرور، ومرة تحت عنوان التسامح، ومرة ثالثة لأن كل شىء فى الحياة أصبح خطاً: «هى جت على دى؟». الخروج على القواعد والانحراف عنها، يُرى فى بعض المجتمعات، على أنه عيب كبير لكننا قد نعتبره فى بعض الأحوال «شطارة» ومصدر فخر، ولا نرى بالتالى داعياً لمقاومته.

 

●●●

 

ترى بعض الدراسات النفسية والاجتماعية أنه كلما شعر الفرد بأهمية انتمائه إلى المجتمع، كلما سعى إلى الإبقاء عليه متماسكاً، وبالتالى حافظ على قواعده وأعرافه. تقودنا هذه المعادلة إلى التساؤل حول ما إذا كان كل من سائق الميكروباص أو الدراجة النارية أو حتى البائع الجائل يكترثون لما يمثله المجتمع بوضعه الحالى، أو يشعرون بأهمية حقيقية فى انتمائهم إليه. أظن أن هذا الانتماء لم يعد يحمل القيمة ذاتها التى حملها فيما مضى، فالأحوال متردية، والمجتمع لا يقدم لأفراده الدعم أو الحماية، مما يسهل الخروج عليه وتجاهل متطلباته، فى الوقت نفسه فإن الليونة التى يبديها أمام مفهوم الانحراف بمعناه الاجتماعى وليس الأخلاقى، توصل رسالة مفادها أن المجتمع يتسامح مع أفراده، حتى مع تحطيمهم قواعده، فلا ينبذهم ولا يحرمهم من مميزات الانتماء للمجموع.

 

●●●

 

تهدف الضوابط الاجتماعية فى مجملها إلى المحافظة على وجود المجتمع واستمراره، لكننا لا نبدو متيقنين من تلك الصلة أو من كفاءة قواعدنا، إذ نعتمد فى كثير من جوانب الحياة على مفاهيم من قبَل «البركة» و«دعا الوالدين» و«النصيب» و«خليها على الله»، ونواجه بها كل خلل، ونبرر بها كل فعل ندرك جيداً أنه خطأ.

 

 يترحم كثير ممن شهدوا أيام الثورة الأولى على المدينة الفاضلة التى أنشئت فى الميدان، والتى تهاوت بعد فترة قصيرة جداً، ولم تخلف سوى أحلام وأشواق بالعودة إليها، خاصة بعد ظهور تشوهات عميقة لاحقة، ضربت بأخلاقيات مدينتنا الفاضلة المتوهمة عرض الحائط، وصارت هى نفسها قاعدة لا استثناء. قاعدة لا شك مخيفة لأننا ندرك الآن ألا حدود لها ولا رادع. ربما يكون الأمل فى أن يبدأ المجتمع إفراز قواعد جديدة أكثر تحضراً وإنسانية بعد أن تصل عملية الهدم إلى منتهاها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved