المحددات الخارجية لإستراتيجية قومية

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الإثنين 2 فبراير 2015 - 9:11 ص بتوقيت القاهرة

تدخل خارطة الطريق مرحلة استكمال بناء نظام تسلمه الثورة مقاليد الأمور، آملة أن تستقر فى مثواها الأخير راضية عما أنجزت. تتبارى التيارات الحزبية والطامحون فى تعديل بطاقاتهم لتشير إلى أنهم ممن أولتهم شريحة من الشعب ثقتها فى النيابة عنها فى سن التشريعات التى تجسد آمال الثوار وتلبى أهدافا نادوا بها، والسهر على متابعة كل عمل يقوم به جهاز تنفيذى يولون قيادته ثقتهم. فتعج الساحة بخطب رنانة حول برامج يدعون أنها سوف تكسب رضاء المواطنين كافة. ولنا، إن وفرت الرئاسة مناخا نزيها لانتخابهم، أن ننام ونقر عينا بأحلام وردية، أو نصحو على كوابيس مزعجة، تدفع أبناء الشوارع وهواة الشوارع إلى محل إقامتهم المختار. وحتى تعمل تلك المؤسسات عليها أن ترسم خططا لمختلف فاعليات الحياة، وتطبق سياسات تبث الحياة فى البرامج التى حظيت بالقبول. ولأن الأمر سار على هذا المنوال، فإن الأغلب أن تعود الساحة للاحتقان بخلافات حادة، يرى فيها البعض أو يدعى أنها العلامة الصحية على أننا نعيش عرسا ديمقراطيا، ويذهب آخرون إلى أنه جنازة تشيع فيها أشلاء الأحلام والاستقرار، ويملأ الإعلام ما يتبقى له من فسحة بعد ما يخصصه لتتبع مصدر الأصابع التى حدثنا عنها مرسى، ووثّق لها مؤخرا عاطف الغمرى، اتهامات متبادلة.

•••

هذه اللحظة تتطلب منا لم الشمل، وعلى رأس مداخله طرح فعاليات تحظى بالاتفاق، والوصول إلى تراكم يضيّق مساحات الخلافات، ويخلى مكانها لاختلافات فى المقاربات (ما يسمونه اختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية). كما أننا لا نملك ترف تطبيق منهج هنرى كيسنجر القائم على الحل خطوة خطوة، الذى تمكّن من خلاله إقناع السادات المعتز بصداقاته بإرساء إسرائيل على بر السلام، وتحويل الإستراتيجية التى أرست ثورة يوليو أسسها المتضمنة التصدى للإستراتيجية الأمريكية القائمة على إحلال استعمار جديد قائم على التبعية محل الاستعمار القديم المباشر، 180 درجة وذلك بتوظيف حرب 1967 لإنهائها، ثم العمل تدريجيا على دفعها لتتكامل مع الإستراتيجية الأمريكية. ساهم فى ذلك أن الشعب عند قيام الثورة لم يكن قد بلغ قدرا من الوعى والتعليم والمعرفة بمستجدات التطور الاقتصادى، مستوى يرقى إلى مناقشة الإستراتيجية، وإن أتيح له المشاركة فى إرساء السياسات والخطط المنفذة لها. ورغم التوجه إلى التنمية البشرية بجوانبها الإنسانية والمادية، فإن الثورة المضادة استخدمت آليات تبوير المنظومة التعليمية وتجريف المقومات الثقافية وتفكيك الروابط الاجتماعية وتشويه الهياكل الاقتصادية ما أطال عمرها إلى أربعة عقود.

•••

وإذا كنا نشعر بالأسى على ما ساد الساحة خلال السنوات الأربع التى انقضت منذ 25 يناير 2011، إلا أننا نستطيع القول إن العبث الذى أهدر فرصا عديدة وأفسد جهودا حميدة، لم يكن كله شرا، لأنه ساعد على بناء قدرة على فرز السمين من الغث، وكشف عن زيف الأقنعة التى تخفّى وراءها كثير من الذين تصدروا الساحة، وكشف أساليب للتلاعب لابد من إدراكها للتخلص منها وتجنب العودة للوقوع فى فخاخها. وأصبح لزاما علينا أن نصل سريعا إلى نقطة نستطيع أن نتوافق فيها على إستراتيجية قومية، تحظى غاياتها بإجماع أو ما يقاربه، وتتحدد مراحلها فى ضوء مقارنات واعية بين بدائل نختار أفضلها وفق معايير مستمدة من أمرين: الغايات المتفق عليها، والتمعن فيما نعيشه من أوضاع، وما يرجح أن نشهده من تطورات فى البيئة العالمية، والتى سبق لى تناول جوانب منها فى مقالاتى الأخيرة. والتطورات التى أقصدها لا تنحصر فى أدوات جديدة تستخدم فى تمكين أطراف خارجية من إعادة تعبئة خمر عتيق فى قنانى جديدة، بل إنها تطال الأطراف أنفسهم وما ينتجونه ويعرضونه وما يفرضونه.

لذلك رحبت أيما ترحيب بدأب الدكتور جميل مطر طيلة الشهر السابق على إثارة قضية السياسة الخارجية وأهمية مؤتمر للتشاور حولها. ولا يقتصر ترحيبى على كونها دعوة من مفكر ومتخصص فى مجال لا أدعى امتلاك القدرة على الغوص فيه، بل أجد فيها فرصة سانحة لاستطلاع شامل وجاد ومجدِّد للتغييرات المتوالية فى النظام العالمى الذى نتعامل معه بتلك السياسة، وتلقى بذلك ضوءا أمام مسعى لابد منه للاتفاق على إستراتيجية قومية نستكمل صياغتها لتصبح سياسة محققة لأهدافها. وعلينا بالتالى ألا نتوقف طويلا أمام نجاحات حققتها سياستنا الخارجية أو إخفاقات أصابتها فى ظروف سابقة، بل يجب أن نتابع التغييرات الكبرى، وفى مقدمتها التطورات التى أصابت الظاهرة الاستعمارية التى كانت ضلعا رئيسيا فى قضايانا الوطنية، وفى الصيغ المطروحة لإعادة تشكيل الاقتصاد العالمى فى ظل سيادة مجتمع المعلومات والاتصالات.

•••

لقد أدت ثورة المعلومات والاتصالات إلى تغيير جوهرى فى مقاييس الزمان والمكان، فطالت الفيمتوثانية متجاوزة الأعوام والقرون، بينما عجز الزمن بالمقاييس العادية عن توفير الفسحة الكافية للبشر لإنجاز مهامٍ تتزاحم على نفوسهم، ولكنها مكنتهم من الابتعاد آلاف الأميال مداومين اتصالا عجزوا عنه مع من لا يبعدون عنهم سوى بضعة أمتار. وتعرض الإنسان للبقاء حبيسا فى كبسولة فى الفضاء أو على مقعد أمام أجهزة تنفل أفعاله عبر أجواز الفضاء، ليعمل لدى من لا يراهم ولا يعرفهم يوكلون إليه أعمالا بالتعهيد، ويشترى ما يرغب من أى بقعة فى العالم مقابل نقود لا يراها تنقلها له بطاقة توصف بالذكاء، ويتلقى العلاج إذا مرض من طبيب يبعد عنه آلاف الكيلومترات، بل يستسلم لمبضع جراح لا تطاله يده ولا يراه رأى العين.

إن هذه الأمور هى جزء من منظومة شبكية يعيشها الفرد، تتراجع فيها حميمية الروابط التقليدية بالأسرة، الخلية الأساسية للمجتمع، وبالبيئة المحلية التى ظلت مأواه ومنبع ثقافته منذ بدء الخليقة، ومن ثم بالوطن الذى مازال يشاطر شركاءه فيه الجهاد من أجل تمكينه من توفير حياة كريمة له فيه. ومع ذلك يغترب أحيانا داخله فى معاهد يتلقى فيها العلم أو التدريب، متحدثا لغة تفقده الاهتمام بلغته الأم، أو فى وظيفة لدى منشأة تابعة لشركة عابرة للحدود أو وثيقة الارتباط بها، قد تنقله من بلد إلى آخر وفق ما تقضى به مصالحها. وقد يحصل منها على دخل، بعضه أجر على عمل يؤديه، وبعضه ريع لموهبة تميزه عن أقرانه، وقد يشمل مكافأة لا تعدو نقطة من سيل ربح جنته الشركة بفضل إبداع غير مسبوق، الأمر الذى يقتضى مراجعة متأنية للتقسيم الطبقى التقليدى وفق مصدر الدخل الأساسى، وإعادة صياغة الأطر التى تحدد مقومات الاستغلال، بين الأفراد والدول، إلى جانب إعادة تعريف حدود الدولة، وكنه سيادتها على «أراضيها» و«مواردها» و«رعاياها»، من أجل التمييز بين ما هو محلى وما هو أجنبى تتناوله السياسة الخارجية، إضافة إلى تدقيق مغزى سيطرة الدول على أنشطة تتولى من خلالها من تمكين الشعب من السيطرة على مسار تنمية شئونه والمشاركة فى ركب الحضارة.

•••

يضاف إلى ما تقدم أن المجتمع المدنى ومؤسساته التى تقع فى إطار المجتمع خارج نطاق مؤسساته الرسمية لم يتغير فقط شكلها واهتماماتها وإمكانياتها، بل إنه كالأفراد، له امتدادات وتشابكات تتخطى الحدود الوطنية، وتصطدم أحيانا بأطر تحرص الدولة على وضعها لتحمى بها ما تراه ضروريا للوفاء بالتزاماتها تجاه شعب أولاها ثقته. ولا يقتصر هذا على أساليب العمل، بل يمتد ليتناول تعيين أولويات أعضائه ومصادر التمويل، وأنشطة تدريب العاملين فيه. ومؤخرا انضمت لهذه المؤسسات جماعات احتجاجية على ما تمارسه القوى المهيمنة على النظام الدولى، والتى هى بلا شك على رأس اهتمامات السياسة الخارجية، وتسببت فى جانب مما أصاب الثورة من بلبلة. وأخيرا أنبه إلى أن تلك القوى بعد أن شددت قبضتها على النظام الاقتصادى العالمى ومؤسساته الدولية، تدفع الأمم المتحدة إلى وضع صيغة لإدارة عالمية له تعزز هيمنتها.

خبير فى التخطيط

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved