سيدتى.. لنقرأ التاريخ كاملا

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 2 فبراير 2017 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

يعجب الإنسان للطريقة التى يتعامل بها الخطاب السياسى الغربى مع القضايا التى لا تمس مصالحه مباشرة. فالغرب يدعى أنه يتعامل مع الأمور بموضوعية، وشمولية عقلانية لا تنسى أن تأخذ بعين الاعتبار حقوق الآخرين الإنسانية ولا تنسى أيضا أسباب القضايا ونتائجها.
لكن الادعاء شىء والواقع شىء آخر مناقض لوهم الادعاء. لنأخذ مثالا واحدا شارحا لطريقة تعامل الخطاب السياسى الغربى الظالم مع العرب.


المثال يتضح فى كلمة المديرة العامة لليونسكو بمناسبة إحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست الذى مارسته ألمانيا النازية فى جزأين من عقدى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى.
***


إن المديرة العامة، التى تقول بأن المعرفة بالتاريخ تساعد على إقامة مجتمع إنسانى عادل ومسالم، تتعامل مع تاريخ الهولوكوست ذاك بصورة انتقائية وتجزيئية، فتظهر بعض ذلك التاريخ وتخفى بعضه الآخر.
فمن المؤكد أن الهولوكوست الألمانى النازى، حتى لو اختلفت الروايات حول العديد من تفاصيله وعدد ضحاياه ومدى استعماله كأداة ابتزاز، كان ظاهرة همجية وغير إنسانية. وهى جريمة شملت الاستيلاء على الأملاك والترحيل إلى المنافى وسد منافذ لقمة العيش وقتل الأبرياء.
لكن لتلك القصة نتائج وتتمة يسكت عنها الخطاب الغربى، إما بقصد عند البعض وإما بممارسة ناقصة لقراءة التاريخ الذى تدعونا المديرة العامة لقراءته.


فالتاريخ يذكر لنا أن بعض المنظمات اليهودية الصهيونية استغلت بانتهازيه شريرة تلك المأساة وقدمت خدمات مالية وسياسية للنازيين فى مقابل الوعد بنقل أعداد من اليهود الأوروبيين إلى فلسطين. وكانت النتيجة أن الهولوكوست الأوروبى قاد إلى الهولوكوست الفلسطينى الذى قامت بتنفيذه عصابات صهيونية إجرامية من مثل الهاجاناه وغيرها. ولقد تم تنفيذ الهولوكوست الفلسطينى بنفس البراعة ونفس الخسة الشريرة اللتين استعملهما النازيون.


لقد جرى ترويع الأبرياء وذبح بعضهم، والاستيلاء على الممتلكات، وتهجير مئات الألوف من وطنهم ليهيموا على وجوههم فى المنافى إلى يومنا هذا ودون أمل العودة إلى مرابع عيشهم التاريخية، ضدا لكل الشرائع والقوانين والأعراف الدولية والإنسانية.
وإذا كانت دول الغرب قد هبت لنجدة ضحايا الهولوكوست الأوروبى، فأنها إلى يومنا هذا تقف متفرجة على ضحايا الهولوكوست الفلسطينى، بل وتتواطأ بشتى الحيل والتبريرات الانتهازية مع الصهيونية النازية.
***


هنا نأت إلى الملاحظة الأساسية: إذا كانت مديرة اليونسكو، وكان المدير العام لهيئة الأمم، وكانت جحافل المسئولين فى بلدان الغرب، إذا كانوا يريدون إعادة تذكر تاريخ الهولوكوست النازى فلماذا يتجاهلون كليا نتيجة ذلك الهولوكوست البشعة اللاإنسانية المستمرة فى الزمن عبر العقود من السنين، ونعنى بها قيام الصهيونية العالمية بارتكاب هولوكوست مماثل بحق شعب فلسطين العربي؟


قراءة التاريخ، يا سيدتى المديرة، إما أن تكون كاملة وإما أن تكون مزيفة بسبب نقصانها؛ وهذا ما تفعلينه وما يفعله غيرك من ذرافى الدموع المدرارة عندما يتعلق الأمر بضحايا الهولوكوست الأوروبى من اليهود، ولكن من ذرافى دموع التماسيح عندما يتعلق الأمر بأكثر من عشرة ملايين من ضحايا الهولوكوست العرب.


نذكر بأنه حتى ندما دخل الضمير الإنسانى فى صحوة مؤقتة واعتبر الصهيونية مساوية للفكر العنصرى وممارسة للجرائم غير الإنسانية انبرى الغرب الاستعمارى، بتنسيق تام مع الصهيونية العالمية ومجرميها فى فلسطين المحتلة، ليبطل ذلك القرار الدولى، وليمنح من يدهم ملطخة بدماء الأبرياء صك البراءة. وها هو الآن لا يزال يجتر تجريم حاملى الفكر النازى ويحاكمهم، ولكنه يتعايش بخبث وتلاعبات بالألفاظ مع الفكر الصهيونى وممارساته فى فلسطين المحتلة.


فالغرب الذى جرم أفكار ــ«افتداء الرض» و«المجال الحيوى» و«الهيمنة العسكرية المطلقة» و«الفصل الحيزى» ــ النازية يتعايش اليوم مع نفس الأفكار تلك التى ينادى بها الفكر الصهيونى، وعلى الأخص الفكر الصهيونى التقليدى اليمينى الاستئصالى المتطرف الذى يحمله أمثال رئيس وزراء الكيان الصهيونى ووزير خارجيته.


من هنا فإننا لا نفهم ما وراء قول المديرة العامة، عندما تتكلم عن ظاهرة أشكال البغضاء فى العالم، وفى الحال تردفها بقولها «ومنها الأشكال التى يحاول أصحابها إخفاءها فى طيات نقدهم المتواصل (لإسرائيل) بطريقة تنم عن الحقد والبغضاء». ولكن ألا تستحق الممارسة اليومية للحقد والبغضاء ضد من تسميهم الصهيونية «بالأغراب»، أى الفلسطينيين العرب، وذلك من خلال القتل والاغتيال، والسجن بلا محاكمات ولا إفراج، وهدم المنازل واقتلاع شجر الزيتون والتهجير والحصار، وحواجز الطرق المذلة المعرقلة لأبسط التنقل اليومى، والاستيلاء على الأراضى لبناء المستوطنات ليسكن فيها الأغراب الحقيقيون القادمون من كل بقاع الدنيا، والتمييز العنصرى والدينى الذى لا يتوقف عن التفنن فى أشكاله وقباحاته، ألا تستحق تلك الممارسات أن يشار إليها سنويا للعالم جميع، ويكون لها يومها السنوى الخاص بذكرها والتنديد بها وتسميتها باسمها الحقيقى: الهولوكوست الفلسطينى؟
***


معذرة سيدتى المديرة، وبكل احترام نقول لك: إذا كان يهود العالم يودون أن يذكروا العالم بمأساتهم سنويا فإن من حق العرب الفلسطينيين أيضا، مسلمين ومسيحيين ويهود، أن يكون لهم ــ هم الآخرون ــ يومهم السنوى لتذكير العالم، لا بمأساة قديمة طوى الزمن آثارها وأحزانها وموت ضحاياها، ولكن بمأساة لا يزال ضحاياها يعيشونها إلى يومنا هذا، بل وتصر القوى الصهيونية، بمؤازرة من بعض الدول وعلى رأسهم أمريكا وبصمت عالمى مخجل تحت الابتزاز الصهيونى، تصر على أن تبقيهم فى جحيم تلك المأساة إلى أن تقوم الساعة.


إذا كانت اليونسكو تريد أن تعيش مبادئها ولا تخضع للابتزاز فعليها إما أن تتذكر تاريخ مآسى الجميع وإما أن تنسى تاريخ مآسى الجميع، بشرط أن تكون قراءة صحيحة للتاريخ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved