خروج العرب الثانى من التاريخ

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 2 فبراير 2020 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

ليس هناك تعبير يصف الوضع العربى الحالى بأفضل من العنوان الذى اختاره المرحوم الدكتور فوزى منصور لكتابه الذى صدرت ترجمته العربية بهذا العنوان فى سنة 1990. ربما تعددت مراحل خروج العرب من التاريخ، انتقال الخليفة العباسى من بغداد إلى القاهرة التى اجتاحتها جحافل المغول فى 1258، وسقوط آخر الممالك العربية فى الأندلس فى 1492 ثم ابتلاع الإمبراطورية العثمانية لأغلب أرجاء الوطن العربى منذ القرن السادس عشر، وقد تبع ذلك بقرون صحوة عربية سميت بعصر النهضة تحول فيها العرب إلى صور متعددة من مقاومة السيطرة الاستعمارية الغربية عليهم بالاجتهاد الفكرى والنضال السياسى السلمى والعسكرى والذى حقق لهم حلم الاستقلال، فدخلوا التاريخ مرة ثانية كصانعين لمستقبلهم، وربما كانت المرة الأخيرة التى شهدت وعلى الصعيد العالمى قدرة العرب مجتمعين على أن يكونوا صناعا للتاريخ هى حرب أكتوبر 1973 التى جسدت فعلا عربيا عسكريا وسياسيا واقتصاديا يقاوم السيطرة الإسرائيلية على أراض عربية، ويتحدى أيضا سيطرة الشركات الرأسمالية الغربية على أهم مصادر الدخل فى الوطن العربى، وذلك من خلال القرارات التى اتخذتها منظمتا الدول العربية المصدرة للنفط (أوابك) ومنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) سواء من خلال رفع أسعار النفط أو من خلال الخفض التدريجى لإنتاجه.
ولكن الأمانة والتحليل الموضوعى يدعواننا إلى التسليم بأنه منذ ذلك التاريخ تحول العرب من فاعل تاريخى يصنع حاضره ومستقبله إلى مفعول به تضع قوى إقليمية ودولية حدودا لسيادته، ثم يحتل بعضها أراضيه، ويتلاعب آخرون بثرواتهم، بل ويعيدون تشكيل نظمهم السياسية والاقتصادية، ويرسمون لهم نمط علاقاتهم بمن كانوا أعداءهم التاريخيين. الأمانة أيضا تقتضى الاعتراف بأن هذا التحول من فاعل للتاريخ إلى مفعول به لم يكن فى معظم الأحوال بسبب تدخل قوى خارجية، ولكنه نتج عن مبادرات عربية خالصة استندت إلى وهم التسوية الانفرادية لصراع عربى ــ إسرائيلى شامل أو تصور إمكان القضاء على الثورة الإيرانية سواء بالعمل العسكرى أو بالتحالف مع الأعداء التاريخيين للأمة العربية.
ولكن ما هى سمات الخروج من التاريخ، وما هى نتائجه؟ وماهى أسبابه المباشرة وغير المباشرة، وهل يمكن التحول من وضع المفعول به إلى وضع الفاعل من جديد، أو بعبارة أخرى كيف تمكن العودة من جديد إلى التاريخ بعد الخروج منه؟

معنى الخروج من التاريخ ونتائجه وأسبابه
المقصود بالخروج من التاريخ فى حالة الشعوب والأمم التى تفقد السيطرة على تشكيل مصيرها أو توجيه أوضاعها الداخلية والخارجية، تحافظ الدول فى هذه الحالة على استقلالها الرسمى، ولكن تملى عليها أطراف خارجية سياساتها الاقتصادية، وتوجهاتها الثقافية، بل قد تتدخل فى اختيار شخوص وتركيبة الجماعة الحاكمة فيها، كما تحدد هذه الأطراف الخارجية نمط علاقاتها بجيرانها الأقربين بل وبالقوى الإقليمية والدولية.
وعندما تفقد دولة هذه القدرة على تشكيل مستقبلها فإنها تصبح أولا عرضة للتهميش فى المجالين الإقليمى والدولى، لا تهتم القوى الإقليمية والدولية الفاعلة بأن تدخلها طرف ليس فقط فى تشكيل مصير الإقليم الذى تنتمى إليه بل حتى فى مناقشة مستقبلها فى ذاته، بما فى ذلك رسم حدودها، ومجالات ممارسة سيادتها، بل وحتى التركيبة السكانية فى بعض أقاليمها.
وفى ظل التهميش لا تقف أى عقبة أمام تحول تلك الدولة أو الإقليم المهمش إلى فريسة مفعول بها، فتصبح مسرحا للتنافس بين القوى الإقليمية والدولية والتى تتحالف معها قوى محلية تخرج عن سيطرة حكومتها، يتحول إقليم الدولة إلى مناطق نفوذ عسكرى وسياسى لدول أخرى، وتصبح الدولة عاجزة عن الوقوف أمام محاولات الافتراس من جانب هذه القوى الإقليمية والدولية.
وأخيرا مع تحول الإقليم إلى مجرد مساحة مهمشة وخاضعة للافتراس من جانب قوى خارجية عنه يسهل أن تتمادى تلك القوى الإقليمية والدولية فى إهانته ليس فقط بالتغاضى عن تطلعات شعوبه المشروعة للاستقلال وممارسة قدر من السيطرة على رسم حاضرها ومستقبلها، ولكن بتعمد توجيه الإهانة لهذه الشعوب بدعوتها إلى أن تقبل كل ما كانت ترفضه فى السابق، وتصور لها ذلك على أنه هو وحده الذى يحقق صالحها ويضمن لها الرخاء والسلام والاستقرار.
وللخروج من التاريخ أسبابه التى تتفاوت ربما من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى، ولكن الوسيلة الوحيدة للدخول فى التاريخ فى العصر الحديث هى امتلاك أدواته الرئيسية التى تتمثل فى المقدرة العلمية والتكنولوجية، التى تعزز مكانة الدولة، وتمنحها القدرة على بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية وترفع مكانتها الدولية، وهى مقدرة لا ترتبط لا بعدد سكان الدولة ولا بمساحتها الجغرافية. سنغافورة وإسرائيل دولتان صغيرتان ولكن كلا منهما صانعتان للتاريخ بحكم امتلاكهما لهذه القدرة العلمية والتكنولوجية، وقد حولت إسرائيل هذه المقدرة إلى مصدر للثروة والقوة العسكرية والمكانة السياسية، واكتفت سنغافورة بتحويلها إلى مصدر للثروة وحققت الأمن بتشابكات اقتصادها فى السوق الدولية. كما اكتسبت كل من إيران وكوريا الشمالية المناعة فى مواجهة ضغوط دولية عاتية بفضل قدرات كل منهما العلمية والتكنولوجية والتى حولتها كل منهما إلى مصدر للقوة العسكرية، وأخفقتا فى تحويلها إلى مصدر للثروة، وقد يكون ذلك نذيرا بانهيار داخلى على نحو ما جرى للاتحاد السوفيتى منذ ثلاث عقود. وفى حالة الدول التى تجمعها روابط تاريخية وثقافية مشتركة وتطلعات بالانتماء إلى كيان أكبر، فإن عليها أن تقهر تحديات العمل الجماعى بأن تدرك أن مصلحتها المشتركة فى الأجل البعيد تفوق المصالح الفردية التى قد تجنيها فى الأجل القصير.

بعض التفاصيل فى ذكر ما جرى:
ينطبق كل هذا التحليل على ما جرى فى الوطن العربى منذ خريف 1973، والذى كان المناسبة الأخيرة التى ظهر فيها العرب شعوبا وأمة كفاعل لتاريخهم، وذلك من خلال فعل مقاوم مكن دولتين من استعادة قسم من إقليميهما المحتليْن بالعمل العسكرى، وإن كانت الاستعادة مؤقتة فى حالة سوريا، كما مكنت قرارات الأوابك والأوبك الدول الأعضاء فيهما من اكتساب القدرة على تحديد أسعار ومستويات إنتاج البترول ثم بعد ذلك السيطرة الكاملة على هذا القطاع الحيوى، وهو ما كان فى وقتها يمثل تحديا بل وإسقاطا لبعض قواعد العلاقات الاقتصادية بين دول الشمال الصناعية المتقدمة ودول الجنوب المنتجة والمصدرة للطاقة والمواد الخام.
تحول العرب بعد ذلك التاريخ من صانعين لتاريخهم إلى مستسلمين لرؤية أعدائهم لما ينبغى أن يكون عليه هذا التاريخ، أو ضحايا لقوى خارجية بسبب مغامرات عسكرية فاشلة. كانت اتفاقيات الصلح مع إسرائيل قبولا للمنطق الإسرائيلى فى التسوية: التطبيع الكامل للعلاقات معها فى جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية بل والأمنية فى مقابل استرداد أراضٍ محتلة منقوصة السيادة وعلى أساس منفرد لا يفتح الباب لتسوية شاملة للصراع العربى الإسرائيلى يتعامل مع جميع العلاقات الخلافية بين الطرفين. أدت هذه التسويات إلى تعميق الخلافات العربية العربية بحيث لم يجد العرب أنفسهم فى مواجهة إسرائيل كتلة واحدة كما كان حالهم قبل 1973، وأدت مغامرات صدام حسين العسكرية ضد إيران أولا وضد الكويت ثانيا إلى خروج العراق كاملا من معادلة القوة العربية بل وإلى توفير ذريعة لاحتلاله عسكريا من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ثم فقدان حكومته المركزية السيطرة على كل إقليمه وأمنه الداخلى وانكشافه أمام مسعى إيران للإمساك بمفاتيح إدارة شئونه السياسية والأمنية والعسكرية، ومع امتلاك بعض الدول العربية أرصدة مالية هائلة إلا أنها أخفقت فى تحويل بعض هذه الأرصدة إلى ما يحقق لها نقلة نوعية من اعتمادها المفرط على تصدير مادة خام هى البترول أو الغاز الطبيعى إلى دولة صناعية جديدة كما هو الحال فى دول شرق آسيا أو ما يكسبها مكانة مستقلة فى إطار النظام المالى العالمى كما هو حال الصين مثلا. وأخيرا وهذا هو السبب الأهم لم تنجح أى من الدول العربية فى تحقيق نقلة نوعية من كونها مستوردة للعلم والتكنولوجيا إلى دولة منتجة لهما، كما يثبت ذلك تواضع ظهور العرب فى قائمة الدوريات العلمية ذات المصداقية. واستسهلت كل الدول العربية تغليب مصالحها القطرية فى الأجل القصير على المصالح العامة لكل الدول العربية فى المدى الطويل.
كانت هناك لحظة تاريخية قصيرة بدا فيها أن الشعوب العربية استعادت قدرتها على تشكيل تاريخها على النحو الذى يتفق مع التطلعات المشروعة لها للعيش الكريم والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وذلك بثورات الكرامة العربية فى سنة 2011، ولكن هذه اللحظة تبددت بفعل الثورة المضادة وإخفاق الأطراف التى شاركت فى هذه الثورات على صيغة للحكم المشترك، وهو ما فتح الباب للتدخل الأجنبى من قوى إقليمية ودولية فى سوريا واليمن وليبيا.
وهكذا لقى العرب مصير كل من يصبحون مفعولا به أمام التاريخ. تعرضوا للتهميش، فمصائرهم تحددها قوى غير عربية كما يظهر جليا فى تطورات الأوضاع فى كل من سوريا واليمن وليبيا. الأمر متروك فى سوريا للثلاثى الروسى والإيرانى والتركى، وفى اليمن لأنصار الله الحوثيين المسنودين من إيران، ودخلت تركيا وروسيا فى رسم معالم الخروج من الأزمة الليبية دون أن تكون هناك مبادرة ذات قيمة من الجانب العربى المنقسم على ذاته. ثم أصبح العرب فريسة لأطماع الآخرين وليس فقط فى سوريا واليمن وليبيا بالتواجد العسكرى المباشر أو غير المباشر على أراضيها، ولكن من خلال التحكم فى القرار السياسى الداخلى كما هو حال إيران فى لبنان من خلال ولاء حزب الله لولاية الفقيه التى يعترف بها السيد حسن نصر الله،زعيم حزب الله اللبنانى، ولكن أيضا من خلال الابتزاز المالى الذى تمارسه إدارة ترامب على كل دول الخليج.وأخيرا تضاف الإهانة إلى نتائج التحول إلى كل ذلك. ولعل ماسمى بصفقة القرن هو أبرز مثل على هذه الإهانة التى تتمثل فى دعوة الولايات المتحدة وإسرائيل الدول العربية أن تضرب ظهر الحائط بكل ما كانت تتمسك به كثوابت عربية: لا القدس ستصبح عاصمة للدولة الفلسطينية، ولا تصفية لوجود المستوطنات على أرض فلسطينية، ولا عودة لللاجئين، ولا وجود لدولة فلسطينية ذات سيادة على أراضيها، بل ويجب على الدول العربية أن تعوض اليهود الذين غادروا موطنهم فيها إلى أسرائيل عن ممتلكاتهم وتدفع التعويض إلى إسرائيل. وعلى العرب قبول والتطبيع مع دولة يهودية لا مكان فيها لفلسطينيى 1948 إلا كمواطنين من درجة ثانية. وتبلغ الإهانة قمتها عندما يسمى أصحاب هذه الصفعة مبادرة سلام.

كيف تتم العودة إلى التاريخ؟
العودة إلى صنع التاريخ ممكنة. خطوتها الأولى هى رفض هذه الأوضاع والبدء بالفعل من خلال المقاومة التى يشرع فيها الفلسطينيون وتساندهم الشعوب العربية، ولكن الشرط الأساسى لصناعة التاريخ فى القرن الحادى والعشرين هو السعى لامتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا. فليتعلم العرب من الصين والهند. أليس هذان البلدان من أصحاب الحضارات العريقة فى تاريخ الإنسانية هما اللذان يساهمان الآن ليس فى تشكيل حاضر ومستقبل شعبيهما فقط، ولكن فى تشكيل حاضر ومستقبل العالم. وليدركوا أيضا أن وهم الحلول المنفردة لمشاكلهم بديلا عن عمل عربى عام هو فى النهاية الذى أخرجهم من التاريخ، بل ويكاد يخرجهم أيضا من الجغرافيا مع امتداد السيطرة الأجنبية على أراضيهم كما نشهد فى فلسطين وسوريا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved