الإدارة الأمريكية تبدل ولا تتبدل: يظل الميدان مفتوحا فننصر الثورة ..

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 2 مارس 2011 - 10:06 ص بتوقيت القاهرة

 على امتداد دهر الصمت كان «الشارع» فى مختلف العواصم العربية مقفلا لا صوت فيه إلا صدى الفراغ المدوى.

كان «الشارع» هو العدو الافتراضى للحاكم الفرد الذى ــ بطبعه ــ لا يحب الازدحام، ويفضل أن «يتفرج» على الحشد المنظم من علٍ، وأن يسمع عنه وليس منه بواسطة رجال أمنه المولجين بحراسة آذان «السيد الرئيس» ومزاجه.

أما «السياسة» فمصادرة: هى ميزة شخصية للطاغية. وبالتالى لا ضرورة لأكثر من سياسى واحد فى البلد الواحد. كثرة السياسيين تفجر الخلافات وتأخذ إلى الفوضى. لابأس من أن يلعب بعض التكنوقراط دورا فى ترشيد الاقتصاد بما يناسب «السوق».

لابأس من الخبراء فى تنشيط السياحة. لابأس من بعض الجمعيات النسائية وبيوت رعاية الأطفال لإظهار أعمق المشاعر الإنسانية عند «السيدة الأولى». لابأس فى أن يتولى بعض المثقفين مهمة الترويج للنظام نثرا وشعرا، غناء وتمثيلا، فى السينما والمسرح.

لا مانع من الاعتماد على بعض الدبلوماسيين المحترفين فى الترويج للقائد الفذ باستخدام الفنون الحديثة فى مجال العلاقات العامة.

تم تصوير الشارع وكأنه شىء من الماضى وفيه، لا ضرورة له فى زمن التواصل المباشر بأجهزته العديدة التى كان «النظام» يستخدمها لكى يعرف كل شىء عن كل الناس فيطمئن ويذهب إلى النوم.

الشارع هو الفوضى. الشارع مساحة الخروج على النظام. الشارع يغرى الشباب بالعبث بالأمن، بالتعديات ذات الطابع الجنسى، بالنشل وضروب الاحتيال.

ثم إن «الجماهير» تعبير بائد ينتمى إلى زمن مضى. ذلك كان أيام الأحزاب والفرق بمعناها التقليدى: نظرية فلسفية وشروح معقدة لنظام حكم طوباوى وتنظيم سرى وخلايا وفرق وقيادات هرمية وأسماء حركية.. لماذا كل هذا التعقيد؟!

نظام الفرد يلغى الشعب، يلغى المؤسسات، يختصر «الدولة» فى شخصه مع بضعة من المعاونين النكرات، الذين يستمدون «مكانتهم» من قربهم من أذن «النظام».

تعانى الشعوب المنتفضة طلبا لحريتها من نقص معرفتها بذاتها. النظام يقفل الباب بينه وبين الناس. يبقى على اتصالاته بالعالم من فوق رأس الشعب. إذا سقط النظام الملخص بشخص فرد انكشفت «الدول» التى كانت تحكم رأس النظام وتقرر له وبالنيابة عنه. فالدكتاتور يعيش فى عالم من الفراغ. أنه يكتفى بذاته.. فإذا ما احتاج «نصيحة» جدية بادرت الإدارة الأمريكية الراعية إلى تقديمها له.

«الشارع» العربى الآن أمام امتحان جدى الآن، الشارع بما هو «الشعب» جميعا.

(2)

لم يسبق للشارع أن كان مصدر القرار إلا فى حالات نادرة وفى لحظات استثنائية، وهو الآن أمام امتحان مصيرى: بين محاولة تملقه واسترضائه بتنازلات جزئية وبين مواجهته بان «تطرفه» قد يهدم «الدولة» كلها. ليس الطاغية شخصا، انه النظام جميعا، بمؤسساته التى كانت تحت إمرته، هو من قياداتها من بين «المخلصين»، وهو من يغطيهم بشرعيته.

كان لابد من إسقاط الخوف للنزول إلى الشارع. مع إسقاط الخوف سقط الطاغية الذى كان يتحصن فيه.. ولكن النظام لا يسقط، بالضرورة، مع سقوط الرأس.

فى قلب الشارع، تجلت القدرة على إسقاط النظام وتبدت الحاجة إلى برنامج للتغيير. سقوط الرأس قد يتحول إلى خدعة. رأى الناس أركان البيت الأبيض فى واشنطن يواصلون إسداء النصائح علنا، وهم بالتأكيد بعثوا برسائل مباشرة إلى الطغاة المستهدفين بالتغيير. وصلوا متأخرين إلى تونس. حاولوا إنقاذ من يمكن إنقاذه من أركان النظام.

لجأوا إلى دفاترهم القديمة لعلهم يعرفون بعض من سمعوا أنهم من قادة الانتفاضة وحاولوا التواصل معهم.

مع ثورة مصر كان التواصل مباشرا وعلنيا مع أركان النظام. أوفدوا رسولا خاصا للتطمين، تفرغت وزيرة الخارجية لإسداء النصائح، بهدوء أول الأمر ثم بنبرة فيها شىء من التهديد بعد ذلك. ثم كان لابد من أن يتدخل الرئيس الأمريكى الأسمر ذو الجذور الإسلامية ناصحا، محذرا، وصولا إلى التهديد. وكان رئيس أركان القوات الأمريكية يترجم بنبرة عسكرية كلام اوباما: هذه منطقة نفوذ لنا، ممنوع على غيرنا التدخل فيها. لنا القرار! حتى مع إسرائيل نحن من يقرر. نحن الضامن لاتفاقات كامب ديفيد، ونحن نثق بالتزام «النظام الجديد» فى مصر بنصوصها ومضامينها.

أما مع ليبيا التى تجاوز قائدها الذى يرفض أن يكون رئيسا او ملكا او إمبراطورا لأنه فوق ذلك، فقد قفزت الإدارة الأمريكية من فوق الشعب الليبى لتتخذ الإجراءات اللازمة لحماية النفط. النفط أهم من الشعوب. ومجلس الأمن جاهز لكى يفوض الإدارة الأمريكية بحماية مصالحها بما تراه مناسبا: المحكمة الجنائية الدولية، الحصار الصارم مع تهديد بالغزو المسلح.

.. لكن الوقائع أثبتت أن وسائل الحماية الاستثنائية فى قصور القذافى فى المدن الليبية المختلفة هى من صنع مصانع متخصصة أمريكية!
ومعروف أن «العفو» الاستثنائى عن ممارسات النظام الليبى، بما فيها مسئوليته عن تفجير طائرة الركاب فى الجو فوق لوكربى، لم يصدر إلا بأثمان باهظة، كان النفط بعضها، وكان التوقف عن المشاغبة على السياسية الأمريكية فى المنطقة بعضها الآخر، وكان التخلى عن الحماسة للقضية الفلسطينية والكفاح المسلح شرطا أساسيا.

كذلك فإن الإدارة الأمريكية وجدت نفسها «مضطرة للتدخل» فى البحرين لكسر عناد الشيخ الذى صيّر نفسه ملكا وإجباره على الأخذ بالحد الأدنى من الإصلاحات المطلوبة، بدلا من مواجهة الشعب بالسلاح وارتكاب المجازر كما حصل فى ميدان اللؤلؤة فى اليوم الأول للاعتصام السلمى.

(3)

أما فى اليمن حيث يستثمر النظام حكاية «القاعدة» لتأبيد حكمه فتجد الإدارة الأمريكية صعوبة فى فهم التركيبة العشائرية ومنطق الصراعات الجهوية ومكمن مفتاح الخلافات الفقهية بين الشوافع والزيود!


لا تعنى هذه الشواهد، بأى حال، أن الانتفاضات التى تشهدها الأرض العربية هى ــ لا سمح الله ــ من صنع أمريكا بإدارتها وسفرائها وخبرائها الاستراتيجيين وقادتها العسكريين..

ولكنها تعنى أن سقوط رأس النظام لا يعنى انتصار الثورة، وأن المهمة تبقى هى: اقتلاع النظام من جذوره، برأسه وحكومته ورموز سيطرته الأمنية والمدنية.. ومصدر حمايته فى الخارج، أى الهيمنة الأمريكية.

وفى تجربة تونس دخلت الانتفاضة فى امتحان جدى أمام سقوط النظام: لقد نجحت فى إسقاط الطاغية الذى هرب وهربت زوجته معظم الثروة المنهوبة، ثم رفضت التركيبة الأولى للحكومة الانتقالية، وبعدها واجهت المجلس النيابى بالحل، وساعدها حياد الجيش فى مواجهة الجهاز الأمنى الضخم والشرس لبن على.

لكنها لم تكن تملك برنامج التغيير ولا عدته. فرضت حل الحزب الحاكم، ورفضت تولى قياداته أى منصب. قبلت مكرهة بتولى رئيس المجلس النيابى الرئاسة بالنيابة، لكنها بعد ساعات رفضته، وسلمت بتسمية رئيس للحكومة من خارج صفوفها، ثم انتبهت إلى أن حكومته تضم بعض رجال النظام فضغطت حتى أخرجتهم، وعندما واصلت ضغطها اضطرت رئيس الحكومة ذاته إلى تقديم استقالته على الهواء.

لا بأس من تحقيق برنامج الانتفاضة بالتقسيط. المهم أن يكون البرنامج واضحا. والمهم الاهتمام بالدور الفرنسى المريب، السابق على الدور الأمريكى واللاحق له، والكلام الغريب لوزيرة الخارجية الفرنسية اليو مارى، والتى كانت من قبل وزيرة للدفاع عن استعدادها لتوفير دعم لوجستى للطاغية، إذا ما طلب، فى مواجهة الانتفاضة.. وقد كلفها هذا التصرف الأهوج منصبها!

لا صداقات للدول الكبرى. هناك مصالح. أما الدولة العظمى (وهى الآن الولايات المتحدة) فلا تتورع عن المشى فوق جثث «أصدقائها» اذا تطلبت مصالحها ذلك.

ولنتذكر أن الإدارة الأمريكية قد رفضت أن تقدم الملجأ او حتى المدفن لشاه إيران الذى خلعته الثورة، وتركته يهيم على وجهه حتى تكرم عليه أنور السادات بمقبرة بعيدا عن القاهرة، وبذريعة «إكرام الميت».

(4)

وبين الدروس المستفادة من الانتفاضات الشعبية فى مختلف جنبات الأرض العربية يتبين أن «الدول»، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة للتضحية بالرئيس من أجل إنقاذ النظام، (مصر، تونس..) أو حتى للتضحية بالوطن ودولته من اجل إنقاذ «القائد» ( نموذج ليبيا)، أو التضحية بالنظام والوطن والدولة و«القائد» من أجل النفط (اليمن) وحماية آباره الغزيرة فى الجوار السعودى.

إن بقاء النظام يعنى ــ ببساطة ــ اغتيال الثورة.

إن الحكومة من النظام، والمجلس النيابى ومعه مجلس الشورى من أهل النظام، وقيادات الإدارات الأمنية والمؤسسات الحكومية من الأبناء الشرعيين للنظام، أى انتخابات نيابية فى ظل هذا النظام (معدلا) ستعود بهؤلاء إلى المجلسين فالحزب الحاكم كان يسيطر على أسباب الحياة جميعا، وليس أسهل من عملية تبديل الأقنعة وشراء الرضا بإعلان الولاء للثورة.

(للمناسبة: هل ما زال الرئيس المخلوع حسنى مبارك رئيسا للحزب الوطنى؟ إنه لم يستقل علنا، فضلا عن كونه ما زال على صلة، كما تؤكد الشواهد، بأركان الحكومة التى عينها مرغما، لحظة اضطراره للتنحى).

إن مصدر السلطة فى هذه اللحظة هو «الشارع» باعتباره مقر الثورة، منبعها ونهرها الجارف، والصورة الناطقة بوحدة الشعب وإرادته.
ومع التنبه لصعوبة الولادة الجديدة للحياة السياسية، التى ستؤطر الثورة فان «الميدان» ما زال «مصدر السلطات» باعتباره التجسيد الفعلى للإرادة الشعبية.. خصوصا أن القيادة العسكرية التى أظهرت الكثير من الحكمة فى مواجهة زلزال خلع الطاغية، تبدى استعدادها لتنفيذ الإرادة الشعبية بوصفها ــ فى هذه اللحظة ــ مصدر الشرعية.

المهم أن يظل الميدان مفتوحا لأهله الشرعيين، من أجل أن يتكامل الحدث التاريخى الذى اصطنعه الشباب فى تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، والبقية تأتى.

المهم أن يظل الميدان مصدر الشرعية من اجل تغيير يليق بالملايين، التى فتحت باب الغد ليس فى بلادها فقط، بل فى الدول التى يحكمها الطغاة فى أربع رياح الأرض.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved